الأنساق الهندسية تروي تاريخ مدينة في ‘الدار البيضاء الهوية والمعمار’

( الجسرة )

“إن الدارالبيضاء ليست البوابة التي دخلت منها الحداثة إلى المغرب، بل إن الدارالبيضاء هي التي كانت صانعة لحداثة المملكة”.

بهذا التصدير، يفتتح المعماري المغربي رشيد الأندلسي، والكاتب والباحث الأكاديمي المغربي يحيى بن الوليد كتابهما “الدارالبيضاء.. الهوية والمعمار (1912- 1960″، الذي يوثقان فيه عبر حوار مطول واستثنائي، تاريخ وذاكرة المدينة التي أنشأها الفرنسيون إبان احتلالهم للمغرب (دام من 1912 إلى 1956)، ويقدمان فيه قراءة للعمارة الأوروبية التي تتسم بها العاصمة الاقتصادية بالمغرب.

وعن هذا اللقاء الحواري المثمر، بين المعماري والمثقف، يقول الباحث الأكاديمي المتخصص في قضايا التراث ودراسات ما بعد الاستعمار والنقد الثقافي يحيى بن الوليد إن الكتاب “محكوم ببنية قائمة على مركزية الحوار وسند النقد وفضيلة التقديم”.

وأضاف بن الوليد أنه “ليس من السهل استدراج مهندس وباحث معماري إلى حلبة الحوار وباللغة العربية، التي ما تزال تفتقر إلى كتابات من هذا النوع ومن خارج الكتابات السياحية أو التعريفية والتبسيطية”.

وأوضح أنه والمعماري رشيد الأندلسي، رغبا من خلال الكتاب، إثارة سؤال المثقف والمعمار، وسؤال الهوية، لأنهكما يقول “ليس هناك ما هو أخطر من المعمار، فكل ما نعيشه من كوارث اجتماعية ومن مآسي إجرامية… للمعمار دور فيها، وإلا ما الذي يمكن ترقبه من شباب عاطل يعيش في أكواخ لا تليق حتى بالبهائم”.

وزد على ذلك “السكن الاجتماعي الذي صار لا يستوعب الغالبية العظمى من الناس، ومن الطبقة المتوسطة أيضا، بحيث لا نجد حدائق ولا مكتبات ولا دور للترفيه والخدمات الاجتماعية.. أصبحنا نعيش في مقابر عمودية حقيقية”، ويضيف بن الوليد “هذا النوع من السكن تدعمه الحكومة بالمغرب ليتم بيعه بأثمان تفضيلية، لكن شروط جودته في الغالب غير ملائمة، ومساحة الشقة لا تتجاوز 60 مترا مربعا”.

ويستطرد بالقول في معرض المقارنة بين العمارة في ماضي المدينة وحاضرها “من ثم كان رجوعنا إلى الفترة الكولونيالية (الاستعمارية) التي تأكدت فيها هوية الدار البيضاء المعمارية من خلال أسماء وتيارات هندسية حديثة”.

وفي المقدمة التحليلية للكتاب، يرى الباحث الأنثروبولوجي المغربي محمد الصغير جنجار، أنه يعد واحدا من النصوص النادرة المكتوبة بالعربية في هذا المجال، ويقدم قراءة للتاريخ الحديث لمدينة الدارالبيضاء، التي نزح إليها سكان من جميع مناطق المغرب: العامل البروليتاري، والرأسمالي، والفنان، والمثقف، والنقابي، وشكلت مختبرا للحداثة والمعمار بالمغرب، حيث عرفت خليطا عجيبا من التجارب الهندسية”.

وبحسب جنجار فإن المدينة التي بناها هوبرت ليوتي المقيم العام الفرنسي بالمغرب (ممثل الحكومة الفرنسية إبان الانتداب) هي “التجلي الاجتماعي والعمراني لمغامرة الإنسان المغربي الحديث، والمعبرة عن أعمق ما ترسخ على أرض المغرب منذ آلاف السنين”.

فإذا كانت الصداقة الحميمية التي جمعت المتحاورين (بن الوليد والأندلسي)، قد أنتجت هذا الكتاب غير المسبوق، فإنها قد استطاعت أن تكسر كل الحواجز، وتتناول العديد من الأسئلة القلقة المتعلقة بالهوية والمعمار، من خلال نموذج مدينة الدارالبيضاء، التي تحولت مع مرور الزمن إلى نوع من المختبر الدولي الحاضن للتعبيرات المعمارية الحديثة الأكثر جرأة، وفق رؤية الباحث الأنثروبولوجي.

“الهندسة المعمارية تحكي كل شيء، تفضح جميع ما نريد ستره، يمكن قراءة التاريخ من خلالها”، هذا ما قاله المعماري رشيد الأندلسي في معرض جوابه عن أحد أسئلة الكاتب يحيى بن الوليد، ليضيف أن “المعمار (الطراز المعماري) يقدّم صورة عن المجتمع المغربي في جدلياته، وصورة لثقافته ومعاييره، ولأنساق الفعل والتفكير السائدة داخله، على مستوى التعاطي لسياسة المدينة، وأسئلة الجمال والذوق، لأن المعمار ليس مجرد علم وتقنية، فحسب، بل هو بنيان ثقافي أيضا”.

يتوزع كتاب “الدارالبيضاء… الهوية والمعمار”، إلى ثلاثة أقسام، الأول بعنوان “في مدار التقديم”، ويضم تقديما تحليليا لمحمد الصغير جنجار، وتقديما يشرح فيه يحيى بن الوليد لماذا اختار رشيد الأندلسي ليحاوره.

وتحت عنوان “مدار الحوار” يتناول القسم الثاني الهوية المعمارية “الكولونيالية” بالمغرب، وعمل الذاكرة، ودور المثقف. أما القسم الثالث المعنون بـ”في مدار النقد”، فيضم نظرة هادئة حول “المعمار الكولونيالي” بالمغرب.

والكتاب، صادر في طباعة أنيقة، عن “دار سليكي إخوان” بطنجة (شمال)، ويقع في 238 صفحة من الحجم المتوسط، ويضم صورا بالأبيض والأسود تعبر عن الطرازات المعمارية بالدار البيضاء في الفترة الاستعمارية.

ورشيد الأندلسي مهندس معماري مغربي من مواليد مدينة الدارالبيضاء(غرب)، أستاذ محاضر(سابق) بالمدرسة الوطنية للهندسة بالرباط، وعضو فاعل في جمعية الدفاع عن ذاكرة الدارالبيضاء. حاصل على جوائز عالمية في مجال الهندسة المعمارية، وفاز بتصميم مشاريع عديدة داخل المغرب وخارجه، مثل المكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط، ومسرح الدارالبيضاء.

ويحيى بن الوليد، باحث وأكاديمي مغربي متخصص في قضايا التراث ودراسات ما بعد الاستعمار، والنقد الثقافي، من مواليد مدينة وجدة (شرق)، أستاذ جامعي حاصل على الدكتوراه في الأدب من جامعة محمد الخامس بالرباط، له العديد من الأبحاث الصادرة داخل المغرب وخارجه.

المصدر: ميدل ايست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى