«تكرار» بسام كوسا: متحذلقات موليير في مخدع الحرب السورية

( الجسرة)

*سامر محمد اسماعيل

سنوات طويلة مرّت على تلك اللحظة التي غادر فيها بسام كوسا (1963) المعهد العالي للفنون المسرحية، بعد رفضه من لجنة القبول في قسم التمثيل برئاسة الراحل فواز الساجر سبعينيات القرن الفائت. لم يعرف وقتها «الساجر» أن ذاك الشاب العنيد سيعود يوماً ليشرف، وللمرة الثانية، على مشروع تخرّج طلاب الأكاديمية الفنية الأعرق في البلاد. فبعد تجربته اللافتة مع طلاب التمثيل في العام 2013 بعرض «الكوميديا السوداء» عن نص للكاتب الإنكليزي بيتر شافر عاد كوسا لتقديم عرض «تكرار» (على خشبة سعد الله ونوس من 30 تموز إلى 4 آب) عن نص «المتحذلقات السخيفات» لموليير.
تعرية أزمنة
العرض الذي جاهر عبر ثلاثة أزمنة بتعرية طبقة تجار الحرب ومحدثي النعمة، قدم ثلاث نسخ متتالية من رائعة الكاتب الفرنسي، مطلاً من خلالها على زمن النبلاء المزيفين في القرن السابع عشر، جنباً إلى جنب مع طبقة الباشاوات ورجال ونساء الصالونات الأدبية مطلع القرن العشرين في سوريا، وصولاً إلى الزمن الراهن للبلاد، حيث صاغ مخرج العرض مع تسعة من ممثليه ما يقارب ثلاثية تاريخية عن زيف الطبقات الصاعدة في أوقات الأزمات، معللاً بذلك مدخله إلى العرض بمونولوغ ألقته الممثلة فرح دبيات عن تشابه البشر وعدميتهم في كلّ الأزمنة، «فلا جديد تحت الشمس»، والبشر هم البشر، إذ إن ثمة «جرائم نرتكبها ولا يعاقب عليها القانون» جرائم تفتك بالروح والمعنى، وهي أشد انتهاكاً لإنسانيتنا من جنايات معروفة كالقتل والسرقة والاغتصاب.
من هنا جاءت معالجة كوسا» لنص «المتحذلقات» بالتعاون مع الدراما تورج شادي كيوان، لتنتقل بنا من صالونات باريس عصر النهضة، إلى بيوتات دمشق نهايات الاحتلال العثماني، لتصل هذا الماضي بنسخةٍ عن ممارسات متنفّعي الحرب السورية، وما آلت إليه البنية الاجتماعية من خراب بعد أكثر من خمس سنوات من الاقتتال الدائر. محاكمة تبدو طازجة بسخريتها وتهكمها على ما راكمته الأعوام المنصرمة من تشوهات أصابت العمود الفقري للمجتمع، ضاربةً عرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقية، ومجهزةً على الذائقة والجمال والألفة، فالزيف الاجتماعي تعدّى أدواره الاعتيادية ليكون بمثابة حالة طبيعية أنتجت الفساد الثقافي، كلاحقة لفساد اقتصاديٍ واجتماعي مزمن.
على مستوى آخر عمل مخرج العرض مع كل من علي صطوف (مخرج مساعد) ومنصور نصر (مساعد مخرج) على تقديم بيئة لونية لافتة على الخشبة، متكئين في ذلك على أزياء مارال دير أركيليان التي ساهمت هي الأخرى في إعطاء تمايز واضح بين الأزمنة المُقدّمة على الخشبة؛ فمن الباروكي الباذخ لحفلةٍ تنكرية، إلى الطرابيش التركية الحمراء والأحذية البيضاء والسوداء والأطقم الفضفاضة، لنخلص إلى نمط استهلاكي لأزياء معولمة. ديكور علي فاضل أضاف هو الآخر تنويع بارز على أجواء قصور العاصمة الفرنسية، ومناخ البيت الدمشقي، وصولاً إلى أجواء الشقق المعاصرة التي اختار لها فضاءً من القماش والأرائك الزرقاء، ليكون الجمهور على تماس مباشر مع سينوغرافيا متعددة حسب تنوع الزمن التي ترمز إليه أو تعمل على محاكاته فنياً.
ملهاة معاصرة
من جهةٍ أخرى بقي أداء الممثلين في «تكرار» منصبّاً على تقديم مزيج اقترب من أسلوبي «الفودفيل» و «الفارس» وفق حشد من كاركتيرات، لعبها كل من: أديب رزوق، بلال مارتيني، سهير صالح، سيرينا المحمد، لمى بدور، مجدي المقبل، مروى الأطرش، مروان خلوف، ومعن حمزة، بحيث بدا أداء هؤلاء منكبّاً بكليته على رسم شخصيات نمطية أكثر منها علاقة فعلية بين «أنا الممثل الخالقة» و «أنا الشخصية»، وفق تعبير ستانسلافسكي؛ لتنعدم بذلك أجهزة البث الخاصة باستبطان العالم الداخلي للممثل على حساب تقديم ملهاة معاصرة، والتركيز أكثر فأكثر على مبالغات كرتونية ووقفات هزلية مباشرة، باعدت هي الأخرى ـ وفق الخيار الفني للعرض ـ بين الممثل وشخصيته.
انصبّت طاقة الممثلين في «تكرار» على التشنج العضلي والحركي في الأداء، والذي جاء هنا أيضاً بعيداً عن تمرين الذاكرة الانفعالية للممثل، وجعلها ذاكرة استعادية ذات بُعدٍ أُحادي في تصرفات حرصت على موائمة الأقوال بالأفعال، نحو خط فعلٍ متصل من ضحكات وقهقهات وقفزات لا تتوقف. براعة جسمانية بدت في رسم (ميزانسين) خطّه كوسا على موسيقى رعد خلف، أُهملت عبره الحياة النفسية التي يتوجب على طالب تمثيل يقف عند عتبة الاحتراف، أن يختبرها ويعيشها بكل سخونةٍ وصدق، من دون الانشغال تماماً بأداء برّاني نجح في تصدير انتقاده الصارخ لبرجوازيي الحرب، لكنه ظل ـ برغم مرحه وحيويته ـ مرهوناً بالكوميديا كنوع حتى النهاية، من غير إنجاز مواجهة جادة وحاسمة بين الدور كوظيفة والشخصية كثراء نفسيٍّ ووجدانيٍّ يتجلى فيه الصراع بشكلٍ داخلي مزمن.

(دمشق)

المشاغب
برز بسام كوسا (مواليد حلب، 1963) كواحد من أبرز الممثلين السوريين الذين حققوا مجدهم الفنّي في أدوار السينما والمسرح، قبل أن يتجه نهائياً للتلفزيون. فمنذ تجربته الأولى مع المخرج فواز الساجر في مسرحية «رسول من قرية تاميرا» في العام 1976 لمع نجم هذا الفنان في الوسط الثقافي السوري، فالرجل لم يكن مجرد ممثل أو أداة للكاميرا، بقدر ما كان مهتماً بالشأن العام، فرغم رفض أستاذه الساجر له كطالب في قسم التمثيل بالمعهد العالي للفنون المسرحية، بقي كوسا على عناده وشغفه بفن الممثل، ليدرس بعد ذلك النحت في كلية الفنون الجميلة بدمشق، ليستقي من هذا الفن عبقرية نحت شخصياته، مشتغلاً فيما بعد في عروض المسرح الجامعي، ومنها إلى أدوار لا تنسى على الشاشة الذهبية.
لم ينأى كوسا عن كلّ ما يتعلق بجوانب الحياة العامة، برغم اشتغالاته التلفزيونية الكثيفة، ونجوميته الساحقة التي حققها عبر أدواره مع كلّ من هيثم حقي وحاتم علي وآخرين، بل ظل مصراً على تقديم آراء جريئة في السياسة والمجتمع، توّجها بلوحات انتقادية ساخرة مع الممثل فايز قزق حملت عنوان «أمل ما في» للمخرج الليث حجو.
من أعماله
«نسيم الروح (2000 لعبد اللطيف عبد الحميد) و «تراب الغرباء» (2001 لسمير ذكرى)، «الكومبارس» (1993 لنبيل المالح) الذي سيجمعه معه فيما بعد فيلم «فلاش» من كتابة كوسا. كذلك قدم تجارب على صعيد السينما الروائية القصيرة، كتابةً وإخراجاً أبرزها فيلم «سهرة مهذبة» (سيناريو لخالد خليفة)، و «دواليك»، حيث حققت هذه التجارب حضوراً متزايداً لبسام كفنان ومثقف مشاغب. قدم على المسرح «العشاء الأخير» (2003) و «كذا انقلاب» (2008) ليشرف بعدها على مشاريع تحرج طلاب التمثيل في المعهد العالي حيث قدم في هذا المجال عرضين هما «الكوميديا السوداء» (2013 عن نص الإنكليزي بيتر شافر) و «تكرار»..
له مجموعة قصص قصيرة بعنوان «نصّ لصّ» (دار الجندي، 1994).

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى