النيل مآسي

محمد شعير

يعود صنع الله ابراهيم إلى أرشيفه الذي صنعه، بعضه روايات لم ينشرها في حينها. بينها سيناريوهات لأفلام لم ترَ النور، وبعضها لم تتفق وهوى المرحلة. هنا رحلة في دفاتر صنع الله القديمة ـ الجديدة، أبرزها ما قام به في شريط «النيل مآسي».

منذ سنوات، يعمل صنع الله إبراهيم في رواية جديدة يتكتم تفاصيلها، هو الكاتب المقل دائما، لكنه خلال السنوات الأخيرة، ما بعد 25 يناير ربما فارق تمهله في إصدار الروايات، ليصدر بين الحين والآخر أعمالا جديدة، لكنه كتبها قبل سنوات ولم ينشرها وقتها، ما يعتبره البعض «البحث في الدفاتر القديمة». ومن هنا نشر صنع الله روايته البديعة «67» التي كتبها بين القاهرة وبيروت عام 1968 وقد رفضت «دار الآداب» البيروتية نشرها في ذلك الوقت لجرأتها الشديدة. وتعتبر الرواية جزءا ثانيا من روايته الأولى «تلك الرائحة»، وتضمنت نقدا لعبد الناصر، وقد رفض نشرها بعد رحيل عبد الناصر حتى لا يعتبرها البعض جزءا من الحملة ضد فترة الزعيم.
أفرج صنع الله عن الرواية مؤخرا في مجلة «عالم الكتاب المصرية»، ومن المتوقع أن تصدر خلال أسابيع طبعة أخرى في دار «الثقافة الجديدة» التي أصدرت أيضا أحدث كتب صاحب «ذات» بعنوان «النيل مآسي» وهو سيناريو فيلم تسجيلي كتبه صنع الله عام 1994، بتكليف من شركة Image الفرنسية، التي كانت تخطط لإنتاج أفلام وثائقية عن الأنهار العظمى في العالم، وكان من المتوقع أن تقوم المخرجة أسماء البكري بإخراج الفيلم وقد ذهبا سويا في جولة استكشافية بداية من منبع النيل، وحتى وصوله إلى البحر المتوسط. ولكن يبدو أن رؤية كل منهما اختلفت، حيث أرادت البكري أن تجعل من الفيلم عملاً سياحياً، بينما رؤية صنع الله إبراهيم كان هدفها أن تستكشف حياة ساكني البلاد التي يمر بها النهر. ومن هنا لم ينتج السيناريو، بل ظل حبيس الورق. في السيناريو يرقب صنع الله بحاسة الروائي المهتم بالتفاصيل البسيطة أحوال السكان في بلاد النهار، أوضاعهم الصحية، والمادية، والتعليمية، راصدا حالة البؤس التي يعيشون فيها، ما يتناسب مع عنوان الكتاب/السيناريو «النيل مآسي».. وهو لعب لغوي على أغنية محمد عبد الوهاب الشهيرة «النيل نجاشي» والتي يتغنى فيها عبد الوهاب بالنهر.
يتخلى صنع الله تقريبا عن حياده، باعتباره مراقبا، كما كان في روايته، ليدمج ـ داخل السيناريو – بين مشاهداته العديدة لناس بلدان النهر وأحوالهم، وما قادتهم إليه السياسة الديكتاتورية في هذه البلد وبين الوثائق، وهي السمة التي تميز كل أعمال صاحب «وردة» حيث يعتمد على الخرائط، الصور الفوتوغرافية، التي يلحق بعضها في نهاية الكتاب، بالإضافة اللقطات الأرشيفية، مقالات وإحصاءات من الصحف والدوريات والمراجع المتخصصة كمؤلفات عوض محمد، رشدي سعيد، إميل لودفيج، وآلان مورهيد.
كانت الرحلة شاقة – كما يكتب – «حافلة بلحظات التوتر، عندما عبرنا مستنقعات الحدود الأوغندية وحطت جيوش ذباب تسي تسي الرهيب فوق سيارتنا، وعندما انساب قاربنا على سطح بحيرة فيكتوريا، تحت بصر التماسيح، وأشرفنا على شلالات ريبون وعندما وقفنا فوق خط الاستواء، المرسوم على الأسفلت، كنت أظنه خطا افتراضيا، وعندما شاهدنا التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق في الخرطوم، وعندما أوشكنا على دخول السجن في الخرطوم أيضا».
سرد قصصي، بصري حاد، لا يتخلى عن التشويق، رغم أنه لم يتحول بعد إلى صورة تتطلبها الأفلام التسجيلية، ما يعني أن صنع الله ليس غريبا عن عوالم السينما، حيث سافر في بداية السبعينيات الى موسكو لدراسة الإخراج، وهناك التقى محمد ملص وشاركه في كتابة سيناريو أول أفلام ملص «كل شيء في مكانه، وكل شيء على ما يرام سيدي الضابط»، وقام صنع الله أيضا ببطولة الفيلم في تجربة هي الأولى والأخيرة له على الشاشة ممثلا. وفي نهاية السبعينيات، تحديدا عام 1979، كتب صنع الله سيناريو فيلم «القلعة الخامسة» وتدور أحداثه في سوريا بداية الخمسينيات حول أربعة أشخاص، هم سلامة، مصطفى، حسين، يوسف، هم أشخاص معارضون للسلطة الديكتاتورية، تتطلع إلى المستقبل لبناء مجتمع جديد أساسه العدالة الاجتماعية. يتعرف شخص على هؤلاء والأربعة عندما يلقى به في السجن السياسي نتيجة لخطأ تشابه أسماء، وهكذا يجد نفسه في موقع آخر مختلف عما كان يفكر ويحلم، يعيش في صراع فكري شديد القسوة. وقد أخرج الفيلم بلال صابوني، وقام ببطولته: أسعد فضة، عبد الفتاح المزين، نادين خوري.
كما أنجز منذ عامين سيناريو فيلم «شرف» المأخوذ عن روايته، وكان من المقرر أن يخرجه المخرج المقيم في ألمانيا سمير نصر، ولكن المشروع توقف «موقتا»!
في «النيل مآسي» يرصد صنع الله تأثير البعثات التبشيرية الإنكليزية والفرنسية وهي تتقاتل من أجل الاستحواذ على روح الأفريقي الأسود، لأن الإيمان بإله أبيض كان ضرورياً لرفع أسهم شركات القطن، الذي كان مُخططاً لكل بلاد حوض النيل وواديه، لتصبح مورداً رئيسياً له. كما يكتب عن تماسيح النهر الصامدة التي يصفها بأنها: «خجول يختفي في غمضة عين، ويقضي وقته راقداً يتشمس فاغر الفاه، وفجأة يتحرك في سرعة البرق. تمساح النيل ماكر بحيث يفلت من الإنسان، وقوي حيث يسقط جاموس النهر، ورقيق بحيث يهشم بيضه ليُطلق سراح الصغار». كما يرصد الأنظمة الحاكمة في بلاد النهر والانقلابات العسكرية، والمجازر والسدود والحروب في رحلة بصرية بالقلم بدلا من الصورة… رحلة توثيقية لفترة معينة، فقد جرت في النهر مياه عديدة، تغيرات يصفها صنع الله بأنها جعلت السيناريو غير صالح للتنفيذ الآن.. ولكن يبقى مثيرا أن نعرف رحلة النهر في زمن ما آخر!

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى