صناعة المهرجانات في لبنان من الانفتاح على العالم إلى ترسيم حدود الجيرة بين أهله!

رشا الامير

لأعوامٍ خَلَتْ، أطْلَقَ وزير لبناني شاب كانَ يتولّى وزارة الصناعة ــ أطلقَ شعارا مفاده «أن تُحِبَّ لبنان هو أن تُحِبَّ صناعته». بالطبع، لا تَخلو هذه الدعوة التي قُدر لصاحبها أن يُبكِّر في الالتحاق بنادي «الشهداء»، من غرابة باعتبار أن لبنان، هذا البلدَ المنمم، (210.50 كلم مربع)، لا يتّسع أصلا لأن تزدهر فيه «صناعة» على المعنى الذي يُسرع إلى الخاطر متى ما ذُكرت هذه اللفظة. على غرارِ مآثِرَ ومفاخِرَ أخرى يعتدُّ بها لبنان، لا معدى للمرء، إذا، متى ما ذكرت «الصناعة اللبنانيّة» أنْ يطلُبَ لها معنى، أو معانٍ، مجازية. والحقيقة أنّ براعة اللبنانيّين في التأويل، لا سيما التأويل على معنى المُبالغة، لا تحتاجُ إلى مصاديقَ وأدلّة؛ وبهذا المعنى فكما أن الصناعة بوصفها قطاعا اقتصاديا هي قطاعٌ مهمّش، كلّ شيء يحتمل التأويل على محمل الصناعة: من «الفساد» (الذي يعدُّه البعض من الأثقل بين الصناعات اللبنانيّة)، إلى «المقاومة» (ولو ترتَّب على ذلك المشاركة في حروب الآخرين) إلى «الصَّيْف»، باعتباره موسم لمِّ الشمل التقليدي بين العائلات اللبنانيّة المقيمة والمهاجرة، والأفراح، (بمعنى «التزاوج»)، و«المهرجانات».
بالطبع، ليس التمهرج بجديد على الثقافة اللبنانيّة، بل يمكنُ القول إنّه عريقٌ في تاريخ لبنان الحديث. فذاتَ يوم لنحو ستّين عاما من اليوم، عام 1955، وقَفَت أجملُ سيّدةٍ أولى عرفها لبنان، زلفى تابت شمعون، وإلى جانبها زوجها الوسيم ، «فتى العروبة الأغر» كما لُقِّب أيامذاك، كميل نمر شمعون، وافتتحا مهرجانات بعلبك الدوليّة. ذلك اليوم، سجَّل لبنان سبقا جديدا على جيرانهِ لا سيّما أن وصفَ تلك المهرجانات بـ«الدوليَّة» لم يكن من باب الأبَّهة والكبر، ولا من باب إلقاء الكلام على عواهنه، وإنّما متابعةٌ لخيار سياسي ليس بالكثير عليه أن يُوصف بـ«الوجودي» مفادُهُ أن لبنانَ مُنفتح على العالم وثقافاته، وأن عروبته عروبة مجاملةَ وليس برنامجا سياسيا. وإنْ ينسى الواحد منا والواحدة فأولى به ألا يَنسى أن عبد الناصر الواقف خطيبا في ميدان المنشيّة في الإسكندرية، مُعلنا تأميمَ قناة السويس، هو أيقونة العروبة في ذلك المنتصف من الخمسينيّات. ويمكنُ الواحد مِنّا أن يُتابع هذه المقارنة، وأن يرى إلى أولى حروب لبنان الأهليّة، 1958، لحظة اصطدام بين منشيّة الإسكندريّة وبين أدراج بعلبك، وأن يرى في سيرة مهرجانات بعلبك ـــ في انتظام دوريّتها لسنوات، ثم في احتجابها، ثم في عودتها الخجولة، وحتى في نزوحها عام 2013 بسبب من الظروف الأمنيّة من بعلبك إلى ضاحية بيروت الشرقية ـــ أن يرى في هذه السيرة شيئا من سيرة لبنان.
لم تخل السنواتِ السابقةِ على الحرب من محاولات لإقامة مهرجانات تحاكي، أو قُل تطمح إلى محاكاة مهرجانات بعلبك، غير أن أيا من هذه المحاولات لم يُكتب لها النجاح وبقي بعلبك، حتى خلال سنوات احتجابه، متربِّعا على عرش المهرجانات اللبنانيّة ووحدة القياس التي تُقاس بها تلك المحاولات إلى أن كان عام 1985، حيث انطلق، بتواضُع، مهرجان بيت الدين.
من يُطالع سيرة هذا المهرجان، كما تَرِدْ على موقعه الإلكتروني، لن يدهشه أن يقرأ كلاما من قبيلِ أن الفكرة من وراء إطلاق هذا المهرجان، أيامذاك، هي تجديدُ فعلِ الثقة والإيمانَ بلبنان وبالثقافة وما إلى ذلك من تُرَّهاتٍ وأباطيل لا تَنطلي إلا على ساذجٍ أو على جاهلٍ بالتاريخ اللبناني يفوتُهُ أن شعار وليد جنبلاط، يومَ أن انتصرت ميليشيا الدروز على الميليشيات المسيحيّة في حرب الجبل، عشيّات إطلاق مهرجان بيت الدين، كان، من قصر بيت الدين الذي يحتضن هذا المهرجان، «ها قد عدنا يا بشير»، متوجّها بذلك إلى جدِّه الأعلى بشير جنبلاط، مبشِّرا إيّاه بأنَّه أخذ بثأره مِمَّن يفترضهم ورثة قاتله بشير الشهابي.
للتذكير، عاش البشيران في النصف الأوَّل من القرن التاسع عشر!
مقولُ القولِ، وبِصَرْفِ النَّظر عن المنازعاتِ بين وجهاء «العائلة اللبنانيّة»، أجداد العدد الأكبر من زعماءِ لبنانَ اليوم، ـــ مقولُهُ أنَّ تأسيس مهرجان بيت الدين إنِّما كان، في مبتدئه، فعلا سياسيا، يستكمل انتصارا عسكريّا، ويُرَمّم ما خُدِشَ من الصّورةِ التي تَتَصَوّر بها، في مرآة أنانيتها، جماعة من الجماعات اللبنانيّة.
صحيحٌ أنّه لا مهرجان يُشبه بيت الدين في نسبه الطائفي السياسي العسكري الرفيع، ولكن صحيحٌ أيضا أنه لا مهرجان من المهرجانات اللبنانيّة المتناسلةِ تناسُلَ الفطر على الخريطة اللبنانيّة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لَيْسَ فعلا سياسيا أو مشروع طموح سياسي يتوارى وراءَ «الصَّيْف» أو وراءَ «الثقافة» أو «الفولكلور»؛ وإن نُقِل من الشمال إلى أقصى الجنوب فنَعني حرفيّا ما نقول. فالقبيّات، أحد أكبر الجيوب المسيحيّة في منطقة عكار، (شمال لبنان)، وهي المنطقة المعدودة أحدَ معاقلِ الإسلاميّين في لبنان، والأكثف باللاجئين السوريّين، بات لها مهرجانها الذي يرعاه نائبها هادي حبيش وزوجته، والذي تُدعى إليه، في عداد آخرين، فرقة «أم بوني» البريطانية المشهورة بموسيقى الديسكو، ووادي الحجير، (جنوب لبنان)، الذي يسُمى باسمه مؤتمر سياسي شهير كان انعقاده في نيسان 1920 موالاة للأمير فيصل ـــ وادي الحجير «مقبرة الميركافا» بلغة حزب الله، تعريضا بعدد الدبابات الإسرائيليّة التي دُمرت في الوادي المذكور خلال حرب 2006، باتَ له مِهرجانه «الفنيُّ» الذي يُنظِّمه أحدُ أجنحةِ حزب الله الثقافيّة، (جمعية رسالات)، وباعتبار أن المكتوب يُقرأ من عنوانه، وأنَّ لكل زمانٍ ثقافة، فلا ما يُدهش حقا بأنْ يكونَ افتتاح مهرجان الحجير حفلا موسيقي تحييه «فرقة بحر النور الإيرانيّة للموسيقى التراثيّة»! وحَدِّث ولا حَرَجْ عن مهرجانات صور التي ترعاها زوجة رئيس مجلس النواب رندة بري، ومهرجانات الأرز التي ترعاها زوجة زعيم القوات اللبنانيّة ستريدا جعجع، وسواها من مهرجانات تستضيفها قرى ودساكر أقلُّ شهرة وترعاها زوجات وأرامل تقف حدود شُهرتهن عند حدود تلك القرى والدساكر!
عمليا، لا إحصاءَ دقيقا لعدد المهرجانات التي باتَ يَعْمُر بها صيف لبنان، وفي المطلق لا ما يُقال بأن تتكاثر المهرجانات والنشاطات الفنيّة والثقافيّة، وبأن يلتقي الناس وبأنْ يفرحوا وبأنْ يُحبّوا الحياة على ما ذهب إليه ذلك الشعار السياسي الذي شاع غداة 2005، وأريدَ منه التمييز بين اللبنانيّين محبّي الحياة (14 آذار)، واللبنانيّين محبّي الحرب (8 آذار). وبشهادةِ هذا العدد من المهرجانات المنتشرة من أقصى لبنان إلى أقصاه لا يبقى سوى أن يستخلص المرءُ بأن «حبَّ الحياة» باتَ مَحَلَّ إجماع بين اللبنانيّين لا بندا يختلفون فيه وعليه. للوهلة الأولى هو كذلك، بل تُزين الوهلة الأولى أن اللبنانيِّين قد اجترحوا نَمَطَ تعايش غير مسبوقٍ بين ثقافات يستبعد المرءُ أن تتعايش: ليزا سيمون وجوزيه فان دام بحماية حزب الله في بعلبك، وباسم يوسف في ضيافة بشير جنبلاط في بيت الدين، وديسكو «أم. بوني» للترفيه عن لاجئي تل كلخ السوريّين في القبيات… ولكنَّها الوهلة الأولى، بل قُلْ إنّها الوَهْلَةُ التي يبرعُ فيها لبنانُ، والتي يُزَجّي بها اللبنانيّون أوقاتهم بين حربَيْن أو أزمتَيْن أو ما يُعادل الحروب والأزمات. فكما أنَّ النيَّةَ مِنْ وراءِ القَصْد، النِيَّةُ أيضا مِنْ وراءِ المهرجان، ومتى ما أنعمَ المرءُ النَّظَرَ في مهرجانات لبنان، فلن يَفُتْه أن يلاحِظَ كم تُشبِه هذه المهرجاناتُ لبنانَ في انحلالِهِ إلى مجموعة من البُقَعِ، بالمعنيّين القاموسيين لكلمة بقعة: «القطْعة من الأَرض تتميَّز ممّا حولها» و«القِطْعة من اللَّون تُخالِف ما حولها»، وضِف، إن شِئْتَ المزيد، أنَّها ترسم حدودا للجيرة، وتصطنع لِتزاور الجيران جدول مواعيد!
يصعب إحصاء مهرجانات الصيف اللبناني نذكر منها : بعلبك . بيت الدين . جبيل . صور . القبيّات . الأرز . بشرّي . زوق مصبح . إهدن . تنّورين . بيت مسك. بيروت. وادي الحجير ( أحدثها وأطرفها ). ضبيّه . حمّانا ( بيت الفنان ، لنا عودة للحديث عنه) .(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى