«جوقة لندن» تعزف في فلسطين… «اليوم أوركسترا وغداً دولة»

بديعة زيدان

لم يكن يعلم الشاب الفلسطيني نسيم الأطرش، من بيت ساحور قرب بيت لحم، أن آلة التشيلو القديمة لجد البريطاني جون هارت، ستكون جواز عبوره إلى عالم الموسيقى، حتى بات يحمل درجة الماجستير في هذا الحقل، ويعزف مع أهم الجوقات الموسيقية العالمية، إنطلاقاً من «منحة» جوقة لندن.
وكان الأطرش اختير من قبل جوقة لندن عام 2008، كواحد من أول دفعة لطلاب فلسطينيين يحصلون على منحة موسيقية إلى بريطانيا. ويقول: «شاركت بداية في مخيم موسيقي لموسيقى الصالة، ومن ثم في ورش عمل الأكاديمية الملكية للموسيقى، وهي واحدة من أهم الصروح الفلسطينية في العالم. نحن هنا في فلسطين لا تتوفر لدينا عادة هذه الفرص، فهذه التجربة كان لها دور كبير في اتجاهي لدراسة الموسيقى، وبالفعل درست الموسيقى في الولايات المتحدة الأميركية، وأدرس الماجستير في بوسطن حالياً».
وعزف الأطرش برفقة شبان وفتيات فلسطينيين ممن عايشوا تجارب مشابهة مع جوقة لندن على مدار السنوات الثماني الماضية، وبات عددهم يزيد على العشرين، وبرفقة مدربين لهم وعازفين من دول أوروبية عدة، مقطوعات لشوبان وموتسارت وآيدن وغيرهم، احتفالاً بتخريج الدفعة الجديدة من طلاب جوقة لندن، وضمن فعاليات مهرجان جوقة فلسطين الذي يجوب مناطق فلسطينية، بتنظيم من المجلس الثقافي البريطاني، ووزارة الثقافة الفلسطينية، وجوقة لندن، ومعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى.
واستضافت الصالة الجديدة لمعهد ادوارد سعيد خلف قصر رام الله الثقافي، أمسية فنية كانت مساحة لإبداعات الموسيقيين الشباب من رام الله وجنين وبيت ساحور وبيت جالا وبيت لحم وغزة وغيرها من مناطق فلسطين، إضافة إلى فقرة خاصة للسوبرانو الأردنية ديمة البواب، التي قدمت مقطوعات مغناة بالإسبانية والألمانية والإنكليزية.
وتلاعبت أنامل الشبان والفتيات على الكمنجة والتشيلو والكونترباص، كما أفواههم على الفلوت، في حين راحت حناجرهم تصدح برفقة معلميهم في جوقة لندن، وسط حضور كان يتمايل طرباً، ويصفق انبهاراً، ليس فقط للكوفية الفلسطينية التي اعتمرت على أكتاف العديد من العازفين، بل لأن هؤلاء الموسيقيين الفلسطينيين، أكدوا مقولة الشاعر الراحل محمود درويش، أن الشعب الفلسطيني «يحب الحياة إذا ما استطاع إليها سبيلاً».
وهذا ما أكده وزير الثقافة الفلسطيني إيهاب بسيسو، بقوله: «الشراكة التي تجسدت عبر منح موسيقية لطلاب فلسطينيين في بريطانيا إنما تؤكد أن الثقافة قادرة على مد جسور التواصل بين الشعوب، كما هي الموسيقى وشتى صنوف الثقافة والفنون قادرة على حمل الصوت الفلسظيني ورواية هذه الأرض وهذا الشعب إلى العالم».
وكان من بين الموسيقيين، مارينا آيشبيرغ، وهي لأم فلسطينية وأب ألماني، حصلت على المنحة البريطانية عام 2012، فطارت من بيت جالا إلى لندن، موضحة أهمــية التجربة في توجيهها نحو درس الموسيقى في ألمانيا، لافتة إلى أن تكثيف التدريبات في إطار ما يعرف بـ «موسيقى الصالة» ساهم في شكل كبير في تكوينها الفني، بخاصة أن كل طالب يعزف ومن حوله موسيقيون محترفون.
وقالت آيشبيرغ في حديث لـ «الحياة»: «الموسيقى نمط حياة، وهذا ما ساهم في تغييرنا وتغيير من حولنا في تعاطيهم معنا، وحين يعرف أي موسيقي في العالم أنني من فلسطين، يغرقني بأسئلته المتعددة عن الأوضاع التي نعيشها، ساهمت وبعض رفاقي ورفيقاتي بتغيير ما رسمه الإعلام الغربي عنا، فكان كثير من الشباب وحتى من هم أكبر سناً في بريطانيا وألمانيا وغيرهما من الدول الأوروبية تعتريهم الصدمة حين يعرفون أنني أبعد قرابة عشرة دقائق بالسيارة عن القدس، ولا أستطيع دخولها بقرار من قوات الاحتلال الإسرائيلي، كما أنني لا يمكنني زيارة أصدقائي في المدن والبلدات الفلسطينية المحتلة عام 1948 إلا بتصريح من سلطات الاحتلال».
أما سما ترزي، عازفة الكمنجة التي رافقت آيشبيرغ إلى لندن فقالت إنها حصلت على المنحة البريطانية قبل أربع سنوات، بعد أن تخرجت من معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى في رام الله، متذكرة أنها جاءت تركض إلى قاعة الامتحان، بعد تأخرها. وتقول: «كنت ألهث، وأعيش حالة ارتباك، لكن بمجرد أن وضعت الكمنجة على كتفي زال الارتباك، وبالفعل تم اختياري للمنحة، ومن يومها أشعر براحة شديدة، ويزول كل توتر يرافق العروض بمجرد أن أضع كمنجتي على كتفي، وأبدأ العزف».
وإضافة إلى ما أتاحته التجربة لترزي من امتلاك أدوات أكثر احترافية في عالم الموسيقى، ساهمت «رحلة بريطانيا» في تغييرات على مستوى شخصيتها كما البقية، حيث «وسعت من مداركي، وآفاق تفكيري، عبر التعرف الى تجارب وثقافات الآخرين، ومنحنتي فرصة تغيير الصورة النمطية للفلسطيني، والتأكيد ببساطة على أننا بشر كغيرنا».
هنا تدخلت آيشبيرغ لتستعيد بذاكرتها ما كان يقوله لهم سهيل خوري المدير العام لمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، عندما كانوا يتدربون في أوركسترا فلسطين، أو في غيرها من المناسبات: «اليوم أوركسترا، وغداً دولة».

 

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى