بابلو بيكاسو والفنون الشعبية

أسعد عرابي

تتعدد معارض بيكاسو خلال هذا الموسم في كثافتها وموضوعاتها إلى درجة التخمة والاستثناء! إن دلّت هذه الظاهرة على شيء فهي ترسّخ أن أصالته لا تُستنفد خاصة في الموضوع الذي يطرحه المعرض الراهن خلال أشهر الصيف، مستمراً حتى أيلول (سبتمبر). كما ترسخ خصوبة قدرته التخيلية المتجددة من ناحية الاستلهام والاستثمار والاستحواذ على التقاليد الفنية والحرفية والسحرية الموروثة. خصصت العاصمة الفرنسية الثانية مرسيليا لهذه التظاهرة ما يعرف باسم ساحة أو «اسبلان 14» في قلب المدينة السياحية، منطقة العبور المتوسطي وتعددية أجناس وأطياف الوافدين إليها والمستقرين فيها. إن شمولية الموضوع تستجيب إلى الذائقة السكانية التعددية.
لا يرجع نكوص بيكاسو إلى الأشكال السحرية الشعبية التقليدية إلى بحثه عن لغة شمولية فقط، وإنما تستجيب إلى حنينه المتأجج إلى بلدة ولادته وتفتحه الأول: مالقا – إسبانية قطلانيّة تقع على تخوم الأندلس. تتكشّف من خلال استخدامه المتكرر للنجوم الزخرفية الأندلسية.
لعل قوة هذا الحنين الجامح جعل مزاجه الفيزيائي لا يتأقلم مع طقس وضباب وبرودة باريس، ويبحث في السواحل الجنوبية المتوسطية عن مدن ومرافئ أشد دفئاً، في أكس أن برفانس مثلاً، استعاد مشاهد الكوريدا وصراع الثيران والسيرك والمهرج، واستعار في أوشحة نساء الطرحة العربية (إشارب الرأس). ثم وهو الأهم، بحث عن التعبير بمادة تقليدية خالدة من فنون النار وهي السيراميك المزجج، وبعد سعيه في عدد من المدن المتوسطية إبتداءً من «كان» يقصد فالوزير: الضيعة المختصة بمحترفات السيراميك وبشهرة عالمية، وجد ضالته فيها، اكتشفها عام 1936 بمصاحبة رفيق عمره الكاتب بول إيلوار، ثم يكتشف محترف مادورا عام 1946 ثم يقرر الإقامة فيها إبتداءً من 1948، يتعلم من هذه العائلة شتى أنواع الشوي بالأفران، وإماهة الآجر والطين (الصلصال)، واستخدام الألوان بطريقة تقليدية، لذلك ابتدأ بالأدوات المنزلية الجاهزة التصميم، بخاصة الصحون وكان أهدى وزير الثقافة الروائي والناقد في عصر ديغول أندريه مالرو عدداً منها. والمعرض الراهن يغلب على اختياراته مجموعات من السيراميك موجودة إلى جانب نماذج التصوير والنحت (بخاصة مجموعة موسم) إذ يحاول ما بين 1954 م و1968 إعطاء نفحة جديدة للفنون الشعبيّة عموماً وتصاميم السيراميك خصوصاً.
ذكرت سابقاً أن من حظ الفنانة الجزائرية المعروفة باية محي الدين أن محترفها مجاور لبيكاسو، وتوطدت العلاقة بينهما وتحالفت الشخصيتان، وعندما يقال بأنه تأثر بنحتها المباشر «بالستوك» كان يبحث عن بصمات أصول ثقافتها وتخييلها التقليدي، هو ما كان يبحثه لدى زميله هنري ماتيس الذي عاش في تونس خلود الموتيف الشرقي، وحتى اهتمام بيكاسو بالمنحوتات الإبرية البدائية الأسبانية العريقة (لوحة آنسات آفينيون) وتوليفها مع الأقنعة السحرية الأفريقية، كان يبحث من خلالها أصول التعبير التشكيلي لدى الإنسان، هو ما دفعه لاستثمار رسوم فنون الكهوف والأختام الرافدية (مثل مجموعة الرسام والموديل).
لا ننسى أن هذه الفترة حفلت بدعوات شتى لإعادة الاعتبار للفنون التقليدية ورفع الحواجز بين اللوحة والمنحوتة وأنواع الحرفيات بما فيها أنواع الحفر، قد تكون مدرسة الباوهاوس الألمانيّة رائدة في هذا التبشير، واستمر بدعوتها فنان الجيل الثاني من الباوهاوس في بودابست وهو فكتور فازاريللي، كان يصمم حتى الإشارات الضوئية في الطرق العامة مخترعاً مصطلح تشكيلي بدلاً من مصوّر أو نحات، أما الدعوة البيكاسوية الثانية حول ديموقراطية المساواة بين الفن النخبوي والفن البدائي فقد كرست حركة جان دو بوفي لهذه الفنون البكر في سنوات الخمسين تكريساً صريحاً أي للفنون البكر غير المثقفة التي تحرك نشاطها الذوقي الأحلام والحدس والنكوصات والهمودات البسيكولوجية، ناهيك عن استثمار تجارب الأطفال وغيرها من الفنون السحرية، والتي تستبدل الذكاء الرياضي العقلي بعمق التجربة المعاشة، وها نحن اليوم في متحف برونلي نوقف مصطلح الفن البدائي و نستبدله في الدراسات بالفنون الأولى.
ولو عدنا إلى تاريخ تصوير بيكاسو قبل اكتشافه للفن الأفريقي وما تبعه وجدناه يستعيد الفن الكلاسيكي اليوناني على طريقته، هذا يعني بأنه كان يبحث منذ البداية عن مراجع أو مصادر واحالات لم تستخدم بعد من أجل تحديثها وتطويرها بما يناسب الحداثة والمعاصرة الأوروبية، شأنه شأن استعاراته من فنانين كبار مثل فيلاسكس وآنغر ومن معاصرين مثل تولوز لوتريك وسيزان وماتيس، لذلك كان يفرّق بين الانحياز والاستحواذ، فهو من النوع الثاني الذي لا يقنع بالإعجاب (الذي قد يؤدي بلا وعي إلى الاستنساخ)، وإنما إلى الاستعارة مع الهضم وإعادة الفرز والإنتاج، ضمن لبوس إبداعي جديد. وهنا نعثر على خطأ النقاد الذين يتهمونه بالتزوير والنقل عن نماذج متباعدةّ… بالعكس لعل الذين نقلوا عنه وسرقوا لوحاته أو زوروها هم أكثر من مقلدي أي فنان معاصر آخر، وورثته اليوم منشغلون بمئات الدعاوى في هذا التعدي.
يتيح لنا المعرض بجدة نماذجه وترتيبه أن نلمس هذه النتيجة التي ظلت غائمة على رغم أهمية بيكاسو.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى