«رافيل» للفرنسي «جان إشنوز»: آخر أيام الموسيقيّ

عمار أحمد الشقيري

أعلت دراسات ما بعد الحداثة من شأن الذاكرة، إلى جانب كل من التاريخ والرواية التاريخيّة، مع تفضيل للأولى ـ الذاكرة- بالإضافة إلى منحها مكانة محوريّة، بعدما كان يُنظر لها على أنها تنتج عن عدم موضوعيّة، وخاضعة للتأريخ، على حد تعبير الباحثة كيت ميتشل.
وصعّد روائيون، الذاكرة إلى جانب التأريخ أيضاً. في الحالة الفرنسية كان جان إشنوز منهم؛ حيث عمل خلافاً للدارج منذ نهاية السبعينيات من ترك الحبكة و السرد لصالح الرصد المتجرد، التي انتهجها جماعة «نهاية فن الرواية» و»الرواية الجديدة» الذي سار فيهما آلان روب غرييه وناتالي ساروت وكلود أولييه.
وكان من بين هذه الأعمال رواية إشنوز المعنونة بـ«رافيل» الصادرة مؤخراً عن مشروع كلمة للترجمة في أبو ظبي ترجمة وليد السويركي، ومراجعة كاظم جهاد، الذي يرى في تقديمه للعمل أن إشنوز مع مجموعة من روائيي فرنسا إلى جانب لوكيلزو عاودوا الكتابة الروائية بشكلها أو معناها القديم. تتناول الرواية السنوات العشر الأخيرة من حياة الموسيقار الفرنسي موريس رافيل؛ حيث الوهن والعجز الذي رافقاه، بالإضافة إلى عرضه رؤية رافيل لكثير من المسائل من بينها: الإبداع، قصص تأليف أشهر مقطوعاته، سيرته مع فنانين وكتاب آخرين، وكل ذلك بإسلوب يقول فيه جهاد إنه «ورث عن جيل دولوز ولعه بالهيام والترحال» مستشهداً بمقولة للروائيّ «لئن كان البعض يكتبون روايات تاريخية فأنا أهوى كتابة روايات جغرافية» وهو ما لا يتضح في الرواية على أيّ حال، إذ أن التذكّر إلى جانب التاريخ – المرتكز على سيرة الموسيقار وشهاداته ومراسلاته هو ما اعتمد عليه الأخير في عمله.
يقول إشنوز عن تصريحات رافيل في الرواية: «عندما أمنح رافيل الكلام في هذا الكتاب فأنا أستخدم على الدوام أقوالاً له عثرت عليها في شهادات من عرفوه عن قرب وفي مراسلاته؛ فالكتاب كله مبني على معطيات فعلية». من هنا يستعير إشنوز ذاكرة من حول الموسيقار؛ صديقته وكاتبة سيرته هيلين مورانج، الكاتب المسرحي من أصول مصرية «زُغيب»، الناقد الموسيقي جورج جان أوبري، ليفتتح العمل بمشهد على رافيل في تفاصيله اليومية، في حمّام ساخن، وهو اليوم حيث ما «تبقى له من حياة، منذ ذلك اليوم، هو عشر سنوات بالضبط» يذكر اشنوز في عمله تفاصيل تتعلق بحياة الفرنسيين، وأحداثاً أخرى حدثت أواخر السنة 1927 نظام الانتخاب الفرنسي حسب الدوائر السكنية، إطلاق الباخرة عابرة المحيطات «كاب آركونا»، إعدام ساكو وفانزيتي صعقاً بالكهرباء، وإنتاج أول فيلم سينمائي ناطق، واختراع التلفاز، وولادة عازف ومؤلف موسيقى الجاز جيري موليغان 1927.
ومن ثم وببراعة المنقب، يورد أحداثاً ثقافيّة لا يحفل بها التاريخ بقدر ما تحفل بها الذاكرة، كالتي شاطر فيها رافيل «سترافنسكي مكانة الموسيقيّ الأكثر تقديراً في العالم» وهو الوقت نفسه حيث كان وليام فوكنر يوزع حياته بين مدينتين؛ أكسفورد في المسيسبي ونيو أورليناز، وبين كتابين «البعوض» و» سارتوريس»، بالإضافة للقائه مع الناقد الموسيقي جورج جان أوبري مترجم عمل جوزيف كونراد «السهم الذهبيّ» التي كان للتو قد أنجز ترجمتها وعرضها على رافيل، وأخيراً زيارة الاثنين لكونراد قبل وفاته بثلاث سنوات.
لا يخلو العمل من استدعاء السخرية، مثل حوارات رافيل مع صديقه المسرحي من أصول مصرية المغمور «زُغيب»، الذي لا يكاد يفقه شيئاً في الموسيقى وتلك كانت «فضيلة العلاقة بينهما» للنقاش في أمور أخرى غير الموسيقى، حيث يورد سؤال المسرحي للموسيقى، من هو شوبان؟ فيرد الأخير ساخراً :«أعظم الطليان». يسرد اشنوز حكايات عن نشأة ومراحل تطور أعمال الموسيقار، «إنه البوليرو ولكنه للأسف خال من الموسيقى» يقول رافيل في البوليرو الذي ألفه وأصبح شعبياً، مع أنه مشروع «شديد التشاؤم» بالنسبة له، قصة تأليفه المصاحبة الموسيقية لأغنية «رونسار.. إلى روحه» لتفادي مجهود جسدي كان يفضل أن يعفي نفسه منه بسبب الكسل الذي رافقه منذ بداياته، ولكي تُعزف باليد اليسرى لأنه كان ينوي التدخين باليمنى، أو قصة تأليف كونشيرتو في سلم ري الكبير (دي ماجور) والثاني في سلم (الصول). واحد لشقيق الفيلسوف فيتغنشتاين «بول» الذي فقده يمناه في الحرب. للتفاصيل في العمل مكانٌ كبير، من صفات «رافيل» عمره في الخامسة والعشرين «سالفين متناسقين، مع نظارة بعدسة مفردة وسلسلة» و«لحية مدببة في سن الثلاثين». و«في الخامسة والثلاثين «حلق كل ذلك»، إلى تفاصيل ما حوته حقائبه إبان السفر «مثلاً على ستين قميصاً، وعشرين زوجاً من الأحذية، وخمساً وسبعين ربطة عنق، وخمساً وعشرين بيجامة»، في حين يوثق أنه أي رافيل «أول من ارتدى في فرنسا قمصان الباستيل، وأول من ارتدى كامل ملابسة باللون الأبيض».
أخيراً يسرد انعطاف صحة رافيل «اضطراب النوم المعتاد، الشعور الدائم بإرهاق شديد» و«الالتهابات العقدية المزمنة»، حيث «لم يعد يعرف جيداً كيف يشغل نفسه بعد قصة البوليرو العجيبة». ومن ثم الحادث الذي تعرض له وكاد يودي بحياته ودق ثلاثة من ضلوعه وكسر ثلاثة من أسنانه، وتمزيق وجهه، وبعدها لثلاث أشهر «لم يفعل رافيل أي شيء البتة». وبدأت حالته تتدهور، حيث صار يحضر حفلاته ويسأل في النهاية عمن كتب العمل، كان «ميتاً مسبقاً» «مدفوناً حياً في جسده».
في محاولة أخيرة أجرت له عملية، فتحت جمجمته، هناك وبعد عشرة أيام سيموت رافيل من دون أن يخلف «وراءه وصية، ولا صورة فيلمية ولا أي تسجيل بصوته».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى