علاقات حب متعدّدة في سنّ متقدّمة

 

سليم البيك

عادة ما تتناول الأفلام قصص حب يكون أبطالها ضمن مجال واسع من الأعمار لا يصل غالباً إلى سن الشيخوخة، كأنّ الحب، مجسّد في مشاعر قويّة، لا يخص من تجاوز سنّاً معينة! لكن يمكن للسينما أن تخرج بأفلام رائعة تطرح مقاربة مختلفة للحب، بمعناه الرّوحي غير الحسي، مقترنة أساساً بشيخوخة طرفيه، والمثال الأقرب زمنياً والأفضل لذلك قد يكون فيلم «حب» للمخرج النمساوي ميكائيل هانيكه الذي خرج إلى الصالات قبل أربعة أعوام، وحصد جوائز عدّة من بينها «أوسكار» أفضل فيلم أجنبي، و«بافتا» أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية، و«سيزار» أفضل فيلم، وأهمّها: السعفة الذهبية في مهرجان كان، والعديد غيرها.
أمّا الفيلم المعروض في الصالات الفرنسية هذه الأيام، والذي شارك فــي مهرجان كان الأخير، فهو «Le Cancre» (بترجمة «الأحمق» أو «البليد»)، وفيه مقاربة مختلفة للحب عند سنّ متقدّمة، إنّما لنتّفق بداية على الفروقات الكبيرة من حيث الجماليات والحكاية والسينماتوغراف وغيرها من معايير تقييم الأفلام. الفروقات بين «حب» وبين «الأحمق»،
إن كان «الأحمق» يُعرّض مشاهديه للملل والسأم من «حمق» شخصيته الرئيسية وأنانيته، إلا أن فيه أفكاراً تستحق الوقوف عندها، وإن تمّ إنجازها بشكل عادي.
الفيلم من إخراج الفرنسي بول فيشيالي، وكذلك قام بكتابته والمشاركة بإنتاجه وتأدية الدور الرئيسي فيه. وقامت بأدوار ثانوية عدّة ممثلات معروفات في السينما الفرنسية، حيث يسرد البطل بعضاً من علاقاته السابقة مع النساء في الفيلم، فكان حضور الممثلات سريعاً جداً.
رودولف، رجل غني على وشك أن يموت، فيسترجع لقطات من حياته أثناء شبابه، خاصة تلك التي كانت مع عشيقاته، النّساء اللاتي أقام علاقات معهنّ. يحكي لابنه عن هذه العلاقات، وليس في شخصية رودولف، ما يمكن أن يثير الإعجاب، فهو فعلاً أحمق، بليد، غبي، عصبي، تافه، أناني، وغيرها من الصفات التي يمكن أن تحكي عن الشخص ذاته، وامتدّت هذه الصفات إلى الفيلم ذاته، فكان الفيلم بليداً بطيئاً، أمكن قطع نصف ساعة منه، وقد امتدّ لما يقارب الساعتين. وانغلاق المكان فيه، والشخصيات كذلك، أدى إلى نوع من الاختناق من مشاهدة هذه الشخصية، طوال الوقت، رودولف وابنه، وهما في بيته معظم الفيلم، أو كلّه باستثناءات قليلة. كل ذلك، وغيره، جعل من الفيلم تجربة غير موفّقة لمخرجه، وهنالك من طرح في الصحافة بأنّ عرض الفيلم في مهرجان «كان»، كان نوعاً من التكريم للمخرج وليس لأن الفيلم استحقَّ فعلاً العرض.
من البداية يدخل لوران، ابن رودولف، عليه بشكل مسرحي مفتعل، يخبره بأنّه يقرر أن يسكن عنده، يفعل ذلك بسبب قلقه على صحّة والده.
ويبدآن حديثاً ثقيل الظل، يستمر الحديث، بمضمونه كما بنبرته، ثقيلاً حتى النهاية، تتخلّله تنويعات تحضرها الممثلات الأخريات، النساء اللاتي يزورهنّ رودولف، أو يزرنه، مستعيداً معهن حبه القديم، تاركاً ابنه في بيته المنعزل في الريف الفرنسي، لكن زياراته هذه ليست إلا محطات مؤقتة إلى أن يحين موعد الزيارة الأخيرة، إلى عشيقته التي أطال الحديث عنها لابنه، مارغريت، التي سيركب القطار للذهاب إليها في باريس، ويبدآن حديثاً عادياً جداً، ليس فيه ما يميّزه، قبل أن يرجع إلى قريته. وقد أدّت دور مارغريت الفرنسية كاترين دينوف، وكان لحضورها القصير زمنياً في الفيلم طبعته الجميلة فيه، كعادتها دائماً. أما الأفكار التي قلنا بأنها تستحق الوقوف عندها، فهي أولاً بعض المشاهد الأقرب للسريالية، حيث لا تفسير واقعيّ لها يجعلها من صلب السياق، سياق الحوارات فيه تحديداً.
وكانت بجرعات خفيفة، منها أن يحمل الابن كأس حليب واقفاً إلى جانب والده المتمدّد على شاطئ البحر، أو ردود فعل الابن في رفع بندقية صيد في وجه زائري أبيه، وتداخــــل ذلك مع حلم له عن زائريْن أطلق النار عليهما، وغيرها من التفاصيل الصغيرة التي لم تستطع فعلاً التخفيف من الملل الذي تسبّبه الحوارات أولاً وكل من شخصية الأب والابن ثانياً.
الأمر الآخر اللافت كان الربط السيريالي كذلك بشكل أو بآخر، بين الصورة والزمن، بين الزمن يمر كما نشاهده بمؤشرات عادية، كارتداء الابن لبدلته أو بيجامته ذاتها، أو علبة الشوكولاته الزرقاء الموضوعة على الطاولة، أو غطاء الطاولة حتى، أو ثبات مقتنيات البيت في أمكنتها، هذه كلّها وغيرها تشير إلى أن زمن الأحداث لا يتجاوز الأيام. لكن في الحقيقة كان الزمن يمتد لسنين كما يشير العام الذي يظهر على زاوية الشاشة دالاً على مرور الزمن، من 2005 حتى 2015.
بين مشهد وآخر نقرأ أنّنا صرنا في عام آخر، إنّما بدون أي تغيير في ما هو داخل إطار الكاميرا، من تفاصيل بيتية إلى لباس الابن أو الأب، منتقلين بين المشاهد كأنّنا ننتقل بين فترتين في النهار ذاته، كأنّنا في ذاكرة الأب التي تسرد سريعاً ما عاشه قبل أن يموت.
كأنّها إشارة إلى السرعة التي يمر بها الزمن عند رودولف وعند غيره، إنّما رودولف تحديداً هنا لأنّه يرى أجله وقـــــــد اقترب، ويحاول استرجاع ذكرياته التي مرّت بسرعة في حياته، كأنّها مشاهد متتالية في فيلم يمتد لساعتين، وإن كانتا مملّتين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى