«يبدو أن جيلنا هذا سيئ الحظ»

محمد شعير

البحث عن الصوت الخاص، النبرة التي لا تختلط بالآخرين، كان ذلك همّاً خاصاً للروائي المصري جمال الغيطاني (1945-2015) الذي تمرّ هذه الأيام الذكرى الأولى على رحيله. وكالعادة، احتفلت القاهرة به، احتفالاً احتفائياً مصغراً مع وعد من وزارة الثقافة بأن يتمّ إعداد مؤتمر دولي عن تجربته الإبداعية، ولكن، كالعادة أيضاً، كثيراً ما تكون وعود وزارة الثقافة مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي أكثر من كونها حقائق على الأرض، وخاصة أن الوزير نفسه كان قد أعلن منذ عام عن تخصيص مكتبة فى منطقة القاهرة الإسلامية تحمل اسم الغيطاني، وتكون مخصصة لكل الكتابات التي تناولت تاريخ المدينة التي عشقها الغيطاني. بعد عام من تصريحه لم يحدث شيء، وتهرب من تبرير تأخر تخصيص المكتبة!
كانت الكتابة لدى الغيطاني إعادة بناء للذاكرة أو محاولة ترميمها. الزمن سؤاله الدائم. الكلمات وسيلته للبناء، هكذا يستعيد في «التجليات» الأب الغائب، أو يعيد بناء مبنى احترق مثل «المسافر خانه»، أو نصوص لم تعُد موجودة.. أو أغنيات. حتى في نصوصه خارج الأدب: المقالات نلمح تمرّده المبكر على «القضايا الكبرى»، مركزاً على الحقائق الكونية والعلوم والفلسفة ما جعله يخرج من محدودية الرؤية القاصرة إلى الأسئلة الفنية، أسئلة الطفولة الأولى. تحرر من عبء الشكل لتصبح الكتابة لديه أقرب إلى مفهوم «اللعب» بالمعنى الفني إذ يصعب تصنيفها تقليدياً. إذ تراوح بين الشذرات الفلسفية والقصائد الشعرية. الأسئلة فيها أسئلته الخاصة لا أسئلة الجماعة. تحرر من أسر الشكل، أو عبوديته.. كتابة حرة تتداعى فيها الذاكرة سواء أكانت الحكايات لها ظل من الواقع أو من الخيال تماماً. وهكذا نقرأ عن مراجع داخل العمل ليس لها وجود، وشخصيات لم تولد بعد.. نصوص فيها من الفلسفة ومن التصوف، ومن الشعر ومن الخيال. يطرح الغيطاني الأسئلة حول الوجود، والزمان، والموت.. وكلها أسئلة تصب في همّ رئيسي هو الذاكرة.
وقد ارتبط الغيطاني بعلاقات قوية مع معظم الكتاب العرب، ومن بينهم كان الروائي السوري نبيل سليمان، الذي يعتز بأنه يمتلك نسخة من مخطوط رواية الغيطاني «الزينى بركات»، كما يمتلك بعض الرسائل التي تبادلاها سوياً فى أواخر سبعينيات القرن الماضي، يتحدث الغيطاني في الرسائل عن بدايات مرضه، وعن الحركة النقدية المصرية وعن قضايا أخرى. هنا ثلاث رسائل.
-1-
أخي الفنان نبيل سليمان
صباح الخير
منذ عدة أيام أرسلت إليك (الرفاعي) و(ذكر ما جرى) أرجو أن يكون المظروف قد وصلك. كيف حالك. أنا بحالة لا بأس بها. أقرأ بغزارة، وأعمل في رواية طويلة قد يستغرق العمل فيها وقتًا طويلًا. (خطط الغيطاني) الواقع الثقافي لدينا سيئ جدًّا. ولكن يجب أن يكون الإنسان جديرًا بهذه الظروف. أي يجب ألا يدعها تقهره، أنا لا أدري أية ظروف تمرّ بها. ولكن يبدو أن جيلنا هذا سيئ الحظ. أفكر أحيانًا؛ هل من الممكن منحنا فرصة لنحيا من جديد، فهذه المرة لا تحسب، أحلام يقظة؟ لا بأس. أرجو أن تكتب لي، وألا يصيبك الكسل في الكتابة، أفدني عمّا إذا كانت الكتب قد وصلت أم لا، كذلك أرسلت (ذكر ما جرى) إلى الصديق عبد الرزاق عيد، هل وصلت أم لا؟ أفدني عن ذلك، وأتمنى منك لو نشر أي شيء عن الرفاعي أرسله لي فى مظروف واكتب عليه (مطبوعات) أو مع أي صديق قادم. كما أتمنى لو تمكنت من إرسال نسخة واحدة من (الحصار من ثلاث جهات) أو أكثر لأنه تصوّر أنني لا أمتلك إلا نسخة واحدة بعد صدور الكتاب بثلاث سنوات. العديد من الأصدقاء يسلمون عليك في القاهرة. الأخ يوسف القعيد وأبو عوف ومجيد. وفي انتظار حضورك لندعوك إلى المقهى. وإلى السهر في الحسين. وعلى فكرة من أهم أخباري أنني توقفت نهائيًّا عن التدخين بعد اكتشاف إصابة محدودة في القلب من آثار الطفولة البعيدة. لكن سوف أدخن مرة أو مرتين لو جئت إلى سورية (خاصة حلب) ولو ذهبت إلى تركيا.
أخي نبيل أنتظر خطابك. ولك تحياتي
جمال الغيطاني
-2-
أخي العزيز الأستاذ نبيل سليمان
صباح الخير.. أو.. مساء الخير
وعدت أن تكتب لي، وانتظرت. لم تصلني خطاباتك فقررت أن آخذ زمام المبادرة.
أرجو أن تكون في صحة طيبة، وأخبارك جيدة. وإنتاجك في غزارة وخصوبة. أنا بشكل عام جيد. الأحوال ليست على ما يرام ولكن كما قلت لك، فإنه من أهم الأمور الآن بالنسبة للفنان أن يحافظ على ذاته أولًا. وهذا ليس بالسهل. وبالطبع فإن الهدف من المحافظة على الذات ليس لإبقائها في حالة جيدة أو سليمة فحسب، إنما من أجل أن يستمر الإنسان في التعبير عن عصره وعن قضاياه، إنني أقرأ جيدًا، وأكتب، ولدي من المشاريع ما يستغرق عمرًا بأكمله. انتهيت من الكتابة الأولى لرواية (الرفاعي) التي تدور حول الحرب. وأعتقد أن وقتًا لا أدري مقداره سيمضي حتى أكتبها مرة ثانية. إنها الكتابة النهائية كما أسمّيها. أعدُّ لروايتي (خطط الغيطاني) وأعتقد أن العمل فيها سيمتد فترة زمنية طويلة. إنني يائس من ظروف النشر. وربما كانت الإيجابية لهذا اليأس هي الإعداد لأعمال تستغرق زمنًا غير قصير. ومَن يدري؟ قد تظهر هذه الأعمال بعد أن نرحل عن هذه الدنيا. هل أنا متشائم؟ ربما. لا أخفيك أنني أشعر بحالات اكتئاب؛ كنت أسمع أن الآخرين يُصابون بها. وكنت أظنها بعيدة عني. لكنها تداهمني بين الحين والآخر. لكن العمل لا يتوقف. الخلق، الإبداع، لأن ذلك يعني لو حدث موتًا عضويًّا أيضًا.
أخي نبيل، اكتب لي، وأرجو أن يكتب لي الأخ عبد الرزاق عيد، وأخبرني عمّا تمّ بخصوص الحديث الذي أجريته معي. هل نشر؟ أرجو أن ترسل لي نسخة من الملحق إذا كان قد نشر. يهمني جدًّا أن أراه. أرسل لي نسخة على عنوان المنزل. (38 أ شارع حيدر – حلوان – القاهرة) وقصة الفندق أيضًا. هل نشرت؟ أرجو إذا أمكن إرسال بعض نسخ من مجموعتي «الحصار من ثلاث جهات» لو كان هذا في الإمكان. بدون أن أثقل عليك. هل لك طلبات من مصر؟ اكتب لي وسألبي كل ما تريد فورًا.
تحياتي لجميع الإخوان وأشواقي
جمال الغيطاني
24/4/1977
ـ3ـ
القاهرة في 15/10/1978
أخي العزيز الأستاذ نبيل سليمان
صباح الخير
أشكرك جدًّا على إرسالك المقال المنشور حول (ذكر ما جرى). لقد وصلني خطابك متأخرًا بعض الشيء عن التاريخ الذي كتبته فيه. المقال جيد وقد سُررت به جدًّا. وأنت تعلم طبعًا الجدب الذي تعاني منه الحركة النقدية في مصر. لا أمل عندي إطلاقًا الآن في أي تقييم نقدي، لقد فقد جيلي كله المتابعة النقدية الدقيقة. وأصبحنا نكتب في فراغ نقدي يشبه هذا الفراغ الذي كان يكتب فيه نجيب محفوظ في الأربعينيات، وإن اختلفت الظروف. فقد كان الفراغ المحيط به فراغًا يحيط بشخصه هو. لا يشمل الظروف، وكانت الحركة الثقافية نشطة وفوارة. ثم إنه كان هناك أمل، أما الآن… فأنا متشائم جدًّا. على أية حال. من حسن حظ الأديب في مصر أنه يكتب بلغة يقرؤها ويكتبها أكثر من مئة وخمسين مليونًا. فإذا ضاق الأمر إلى حين هنا، ففي الحركات الثقافية الأخرى في البلاد العربية متسع ومن هنا يأتي اهتمامي بمتابعة ما يُكتب أو يُنشر. أعتقد أن حركة الترجمة عندكم أكثر نشاطًا من مصر. ولكن ظروفنا في مجملها أفضل حتى على ما هي عليه الآن، يعني الحال من بعضه.
أخباري لا بأس بها، حتى الآن أعمل في خطط الغيطاني. ويبدو أنني سوف أستــمر فيها لمدة طويلة، أوشك على الانتــهاء من الجــزء الأول. وأرجو أن يكون الشتاء فترة نشــاط. وخصوبة. الأصدقاء مجيد طوبيا، ويوسف القعيد يهديانك السلام.
أودّ أن أسأل عن أعمال تولستوي الكاملة. هل صدرت كل المجلدات أم لا. لم يصلنا في القاهرة إلا ثلاثة فقط. الأول والثاني والثالث، كذلك «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست. وصلنا الجزء الأول فقط. إن مدبولي يتولى إحضار ما يستطيع من هذه الكتب، النسخ التي تجيء محدودة ولكنها تنفد فورًا. القارئ هنا لا زال بخير. وتجربة «ذكر ما جرى» تثبت ذلك. لقد أوشك على النفاد. وربما طبعناه مرة أخرى إذا سمحت الظروف.
أرجو أن تكتب لي. وأن تخبرني بأحوالك. وهل انتقلت إلى اللاذقية أم لا؟
وتقبل احترامي
أخوك جمال الغيطاني

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى