عن الافتتان بالموت

أحمد الديب

لا بد أن يكون بك شيء من الجنون حتى تحب “إدجار آلان بو”. حينما يصبح الموت هو محور وقلب كتابات أديب وشاعر عبقري مثله، يصبح من الصعب على الإنسان “الطبيعي” أن يجد في نفسه ميلًا إلى أعماله. ويبدو أن أغلب معاصريه كانوا من الأشخاص الطبيعيين تمامًا، فقد عاش الرجل – رغم موهبته الفذة، وربما بسببها – حياةً هيمن عليها البؤس طولًا وعرضًا، وانتهت بنهاية تليق تمامًا بكل هذا البؤس. لم يبدأ الاعتراف الحقيقي بحجم موهبة “بو” المهول إلا بعد وفاته، وفي بلاد غير بلاده، وحتى الآن لا يستطيع أكبر المتحمسين لبو أن يزعم أنه قد نال المكانة التي استحقها فعلًا في تاريخ الأدب والفن. وتكفي نظرة سريعة للأعمال السينمائية المبنية على كتابات إدجار آلان بو، لندرك أن بو لم يزل يعاني – حتى بعد موته – من التجاهل الذي عانى منه طوال حياته البائسة.

فلولا جهود مُخرج قليل الحظ من الشهرة شديد الحماس لإدجار آلان بو، هو روجر كورمان Roger Corman، لما كانت هنالك ترجمات سينمائية تستحق الذكر لأعمال بو. فقد بدأ كورمان في مطلع الستينيات في مشروع لتحويل قصص بو إلى سلسلة من أفلام الرعب – كلها تقريبًا من بطولة فِنسِنت برايس Vincent Price بأدائه الذي يفيض بالمبالغة والافتعال لكنه لا يخلو أبدًا من اللطف وخفة الظل – قدَّم فيها العديد من قصص بو كأفلام طويلة أو كحلقات قصيرة ضمن ما يُعرف بأفلام المقتطفات. كانت هذه السلسلة من الأفلام هي أهم أعمال المخرج في مسيرته الطويلة، وكانت هي العلامة الفارقة التي حفرت اسم فنسنت برايس في تاريخ السينما، وسينما الرعب على وجه الخصوص، كما كانت من أهم الترجمات السينمائية لأعمال بو، وإن لم تكن قد اقتربت تمامًا من روحها. فأداء برايس كان يلطف كثيرًا من جهامة الأجواء، كما كان كورمان – فيما يبدو – يحاول الموازنة بين تقديم بو للسينما وبين الاحتفاظ بالجمهور في السينمات !
فتقديم بو مهمة غاية في الصعوبة. في أعماله يمتزج الجنون بالعبقرية والشناعة بالوداعة والقسوة بالرهافة، يتناول بو معاني ينفطر لها القلب في أجواء يشيب لهولها الولدان. تستعصي أعمال بو على الترجمة إلى لغات أخرى (باستثناءات مميزة كترجمة الناقدة السورية خالدة سعيد التي صدرت في بيروت لأول مرة بعنوان مغامرات وأسرار)، كما تستعصي على الترجمة البصرية (باستثناءات باهرة كالتي قدمها رسام القصص المصورة ريتشارد كوربِن Richard Corben وهو مجنون آخر مهووس بأعمال بو).

تستعصي أعمال بو لأنها خارجة تمامًا عن المألوف والمستساغ، ولأن ما كتبه مجنون لن يحبه سوى مجنون. اسمع ما قاله بو في قصته القصيرة إليونورا Eleonora: “سمّاني الناس مجنونا، غير أن العلم لم يكشف لنا بعد فيما إذا كان الجنون ذروة الذكاء أم لا، وفيما إذا كان كل ما يسمى مجدًا وكل ما يسمى عمقًا ليسا آتيين من مرض فكري، من حالة روحية تتمجد وتنمو على حساب الذهن العام. هؤلاء الذين يحلمون وهم أيقاظ يعرفون أشياء كثيرة تفلت من هؤلاء الذين لا يحلمون إلا وهم نيام. إنهم يلتقطون – في رؤاهم المغيّمة – لمحات من الأبدية، وإذ يستيقظون يرتعشون لتنبههم أنهم كانوا للحظةٍ على ضفة السر العظيم. إنهم يدركون – جزءًا فجزءًا – شيئًا من معرفة الخير، وأكثر أيضًا من علم الشر. وهم – بلا دفة ولا بوصلة – يخترقون المحيط الواسع للضياء الذي لا يوصف.”

فكيف يستلهم الفنان الجنون؟ وكيف يجرؤ على وصف ما لا يوصف؟ يحاول الإجابة عن هذا السؤال فنان تحريك يُدعى راؤول جارسيا Raul Garcia هو مخرج فيلم “حكايات غير عادية Extraordinary Tales” الذي قدم مجموعة من قصص إدجار آلان بو كأفلام متحركة قصيرة يتفرد كل فيلم منها في أسلوب تحريكه وتقنياته وأجوائه، وتشترك جميعها في حدة الجنون الذي يميز أعمال بو، وينضح على قرائه ومحبيه ومجاذيبه.
خمسة أفلام عن خمس قصص لإدجار آلان بو، يربطها ويقدم لها فيلم سادس هو حوار بين بو نفسه (في صورة أكثر مخلوق ارتبطت صورته باسم بو: الغراب) وبين ملهمة بو الحقيقية ومعشوقته الأبدية وكابوسه الأزلي: الموت، المتجسد في تمثال رخامي عتيق لامرأة كانت ذات يوم غابر – ولا بد – بارعة الحسن. يستمر الحوار الدائر بين الغراب وتمثال المرأة طوال الفيلم متخللًا قصصه، يقدم لها ويعقب عليها، ويربطها جميعًا بأصلها المزعوم: افتتان بو بالموت. تدندن القصص كلها بصورة أو بأخرى حول الموت. “سقوط بيت آشر The Fall of the House of Usher” عن الخوف من الموت والفناء، “القلب الواشي The Tell-Tale Heart” عن الجنون الذي يقتل، “الجُبّ والرَّقاص The Pit and the Pendulum” عن رعب انتظار الموت، “وقائع قضية السيد فالدِمار The Facts in the Case of M. Valdemar” عن تحدي الموت، وختامًا “قناع الموت الأحمر The Masque of the Red Death” عن الموت نفسه، وحده، البطل الحقيقي للحياة.

الموت الذي لم يغب للحظة واحدة عن بطولة الفيلم، بالمعنى المجازي والحرفي! فقد كان ممن قام بالأداء الصوتي للفيلم العملاقان اللذان صارا يمثلان صورة الكونت دراكيولا وصوته عند أجيال كاملة مضت وأجيال أخرى قادمة، البريطاني كريستوفر لي Christopher Lee والمجرّي بيلا لوجوسي Bela Lugosi اللذان غيَّبهما الموت، لكنهما أصرَّا على الحضور بصوتيهما الفريدين، ليرويا أحداث قصة “سقوط بيت آشر” وقصة “القلب الواشي”. كما حضر فنسنت برايس كذلك بصورته المرسومة المتحركة، دون صوته للأسف. لم يقتصر الظهور الشرفي على الأبطال الراحلين لأفلام الرعب، بل اتسع لأبطال لا زالوا – لكنه وضع مؤقت، واسألوا بو! – بيننا على قيد الحياة، ومنهم روجر كورمان نفسه – الذي بلغ التسعين هذا العام – والذي اقتصر دوره على إلقاء جملة واحدة في القصة الأخيرة “قناع الموت الأحمر”، والمخرج المهووس بالرعب جييرمو دِل تورو Guillermo del Toro الذي روى – بلكنته المكسيكية الثقيلة – قصة “الجُبّ والرَّقاص”.
أسماءٌ كان من ضروب المستحيل أن تظهر مجتمعةً في فيلم واحد، لكن “حكايات غير عادية” فيلم غير عادي، فهو أقرب إلى حفل تكريم يضم أيقونات سينما الرعب عبر الحقب المختلفة. لكنه لم يكتفِ بذلك، بل تعدّاه إلى تكريم الوسائط التي حملت إلينا أدب الرعب في الحقب المختلفة، كذلك. فقد كانت قصة “وقائع قضية السيد فالدِمار” مرسومة بالكامل على طراز القصص المصورة (الكوميكس) في فترة السبعينيات، وهي الفترة التي حظى فيها هذا الصنف الأدبي بشعبية جارفة وسط مراهقي تلك الحقبة، الذين صاروا اليوم كبار مخرجي أفلام الرعب، ربما بسبب تلك القصص في الأساس. كما حملت قصة “القلب الواشي” إشارات جلية إلى الأسلوب الفني المميز للفيلم نوار Film Noir بألوانه التي تعتمد بشكل أساسي على الأبيض والأسود وما بينهما من درجات الرمادي، وألعاب الضوء والظل، الأسلوب الذي ظهر واضحًا في بعض تجارب الكوميكس أيضًا مثل “مدينة الخطايا لفرانك ميلر Frank Miller’s Sin City”.

عشرات الإشارات إلى أدب وسينما الرعب، لكن الإشارة الأهم هي – ولا عجب فالمخرج في الأساس فنان تحريك – إلى فن التحريك Animation نفسه، بأنواعه وتقنياته ومدارسه المختلفة، حيث تعمد الفيلم تقديم كل قصة من قصصه بأسلوب تحريك يختلف جذريًا عن القصص الأخرى، ليعلن بوضوح أن فن التحريك هو الأقدر بلا منازع على تجسيد “حكايات غير عادية” تستعصي على الترجمة كحكايات إدجار آلان بو، وعلى وصف ما لا يوصف. فن التحريك الذي صوَّر لنا ببراعة متفردة الألوان المقبضة للقصر الآيل إلى السقوط لعائلة آشر الآيلة بدورها إلى الانقراض، والنظرة الجامدة لعين العجوز المفتوحة في ظلام الليل لتجمد الدماء في عروق من اطلع عليها، وأجواء التنويم المغناطيسي للسيد فالدِمار المحتضر، وعذابات رجل ينتظر تنفيذ حكم الإعدام عليه بألف طريقة محتملة. فن التحريك الذي يعلن لنا بحسم في “قناع الموت الأحمر”، آخر قصة من قصص الفيلم – والختام بها مقصود لأكثر من سبب – أنه لا يحتاج حتى إلى كلمات مصاحبة. تلك القصة التي أبدع بو في كتابتها ووصفها بكلمات جعلتها لا تنتظر سوى فرشاة وألوان فنان مجنون، ليحولها إلى لوحة كبيرة متحركة تنطق بالحقيقة وبالزيف وبالحكمة وبالخوف، تنطق دون الحاجة إلى التلفظ بكلمة واحدة.

وبالكلمة الواحدة انتظرتُ أن يختم المخرج رائعته. بأكثر “كلمة واحدة” ارتبطت بحياة إدجار آلان بو وأدبه وتركته. كلمة Nevermore التي اختتم بها قصيدته الأشهر “الغراب” والتي قال عنها أحد مترجميها إلى العربية – الأديب السعودي الموهوب عدي الحربش – أنها تستعصي على الترجمة بكلمة عربية واحدة، واختار لها عبارة “ليس بعد الآن”. ينتهي الفيلم بآخر ما يقوله الغراب/بو: “أخاف أن يضيع عملي كله ويُنسَى إلى الأبد” ليرد تمثال المرأة /الموت بالكلمة الواحدة: “ليس بعد الآن”.

ليس بعد الآن يا بو. لن تُنسى طالما ذَكركَ الملايين من عشاقك المجانين، المهووسين مثلك بالخيال وبالرعب وبالموت، وطالما ذكرتك السينما – بين الجيل والجيل – بفيلم غير عادي. لن تُنسى لأن افتتانك بالفناء – ويا للسخرية – كان هو ما منحك هذا الخلود.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى