مهرجان «شاشات» العاشر: الغد يؤرّق المرأة

عروبة عثمان

ما هو الغد؟ هل الغد مجرّد يومٍ طويل قد فَقَد دهشته، أم أنّه ذلك المعنى التأويلي الذي يرافقنا من مهدنا إلى لحدنا؟ هل الغد مشروط بما نفتقده، أم باحتمالات الفقد الأوسع؟ هل الغد تًحِيكه أناملنا على انفراد، أم أنّه شرط جماعي يشبه أثر الفراشة الذي لا يزول؟ وهل الغد مجرّد خدعة لنا للهروب إلى الأمام، أم أنّه صورتنا المعكوسة في مرايانا الآن؟ كلّ هذه الأسئلة يحاول مهرجان «شاشات المرأة العاشر» الإجابة عنها.
المهرجان الذي يحمل ثيمة «الغد» وتنظّمه مؤسسة «شاشات»، لا يدّعي تقديمه إجاباتٍ قطعية، بل يُشرِك المشاهد في صوغ تلك الإجابات المفتوحة. يقدّم المهرجان أربعة أفلام تسجيلية قصيرة بعيون نسائية من قطاع غزّة والضفة الغربية، وهي «صيف حار جدًا»، و «جرافيتي» و «صالحة»، و «موطني»، على أن تجوب هذه الأفلام 17 مدينة ومخيما في 90 عرضًا ونقاشًا، وذلك بالتعاون مع 8 جامعات و14 مؤسسة ومدرسة، وذلك حتى أوائل الشهر القادم.

عتمة الحرب
يمشي فيلم «صيف حار جدّا» على خيط الفقد. يقبض على عتمة الحرب الأخيرة على غزّة، وينثرها على الشاشة. كما يمسك بمقودِ تفاصيلِ يومياتِ الحرب ببراعة. كان الصيف فعلًا حارًا. وعلى مدار 51 يومًا، كان الغزّيون يصلون بسهولة إلى قاع البئر. لم تكن صورة هذا القاع كَسُولة على الشاشة. لم يؤرّقها معنى الموت الأكثر تجرّدًا، بل ذهبت إلى التورية في معناه. أسدلت مخرجة الفيلم أريج أبو عيد الستار على الدّم، لتفتح ستارًا آخرَ على الحزن الشفيف والأيدي المرتعشة وخطوات الأقدام السريعة. كانت العدسة مطواعة لمصلحة الباب المهتزّ، وصنبور المياه الفارغ، والضوء المُطفأ، والأذن التي تبتلع الصوت تلو الآخر، وطلاء الأظافر الذي لا تتنكّر له الغزّيات في الحرب.
حاكت المخرجة الوقت على مهل؛ الوقت البطيء الذي يعيد تدوير نفسه في أيام الحرب. لكن ريثما كانت تحلّ ساعة الإفطار الرمضاني، كان الوقت يخلع جِلده، وتتسارع نبضاته مع أطنان المتفجّرات التي تنسكب على رؤوس الغزيين. «الجو رمضان، الدنيا حر صيف، ما فيش كهربا ولا مروحة. توقعناها زي الحرب الأولى والثانية بس هالمرة كانت غير..الدنيا شوب كإنو جهنم فتحت بوابها.. حر ونار وموت، السما بتضوي أحمر طول الليل زي الألعاب النارية وكإنو مشهد فيلم رعب، بس إحنا أبطالو». على مدار الفيلم، كنّا نستمع إلى مثل تلك العبارة على لسان المخرجة، دون أن نمرّ بوجهها. كان صوتها الشخصي بمثابة خلاص الغزيّين الجمعي، خصوصًا أنّه كان محمولًا على البساطة والشعور الطالع من القلب.
اللافت في الفيلم أنّه خيّب توقعاتنا. ربما هو خذلان جميل هذه المرّة، فأجمل الأفلام تلك التي تنحرف عن سكّة الأحداث التي توقّعناها. لم تكن المخرجة ابو عيد من تمتلك مفتاح الإجابة عن سؤال «ما هو الغد»، بل عيد ميلاد شقيقتها عائشة تكفّل بهذا السؤال. سقطت عائشة شهيدة، وخبّأت الإجابة عن الغد بين يديها. اليدان اللتان أخذت تتأمّلهما أريج بشك، وهي في داخل سيارة الإسعاف تحاول أن تعي ما حصل حولها. فُتِح باب سيارة الإسعاف، واخترق الضوء شعر عائشة المكسو بالرماد، لتوقن أريج أن الشكّ كان في محلّه، وأنّ التيه لا يعرف طريقه إلى يديّ عائشة.
صحيح أنّنا لم نرَ شعر عائشة الطويل صريحًا على الشاشة، لكنّنا رأينا كلّ هذه التفاصيل في داخلنا. تمكّن صوت المخرجة، والصور التي كانت تتأرجح أحيانًا بين الضوء والعتمة، مِن أن يلوّنا لنا ذاكرتنا لنذهب بها إلى التطرّف أحيانًا. أتاح لنا هذا التلون أن نرى ظلّ عائشة الخجول؛ الفتاة المحجّبة التي نزحت عن الدنيا بأكملها، بعدما عاشت النزوح الموقّت في حياتها، متنقّلة من بيت إلى آخر. كان إلحاح عائشة على العودة إلى منزل عائلتها توطئةً للعودة إلى مكان آخر، على غفلة منها. لم تكن تعلم أن 30 تموز 2014 سيكون كلّ تاريخها بأثرٍ رجعي. غدها انتهى عند عتبة ذاك اليوم. كان ذاك اليوم بمثابة يوم ميلادٍ جديد لأريج، لا لعائشة التي خبأت إجابة غدنا قبل يوم واحدٍ فقط من يوم ميلادها.

حائط الخليل
تفوّقت كلّ هذه التوليفة على الأفلام الأخرى، لكن جاء فيلم «جرافيتي» للمخرجة فداء نصر في المرتبة الثانية. يحكي هذا الفيلم عن جرافيتي مجهولة على حائط في الخليل تبوح عن الحبّ في زمن الموت. جاءت الإجابة عن الغد هذه المرة من شهيدٍ وشهيدة استقرّا في عبارات الجرافيتي بحذافيرها. اللافت في الفيلم أنّنا نظلّ أسرى أسئلة الجرافيتي حتى تحرّرنا إجابة الشهيدين من أغلالها وسجنها. «ليش تركتني ورحت يا رائد؟ ليش رحت لغيري؟». صيغة السؤال هذه تبدو مخاتلة للغاية، إذ إن حقيقتها الوحيدة أنها أشبه بالساعة الرمليّة المعكوسة. يتنقّل الفيلم بين الجرافيتي وصور الشهيد رائد جرادات والشهيدة دانيا إرشيد، دون أن نفكك الرابط المربك ما بين الأمرين، خصوصًا أن الشهيدة إرشيد كانت قد سقطت قبل جرادات الذي لم يكن يعرفها من قبل. يفتح الغد صندوقه الأسود في عزاء الشهيد جرادات، ويتقدّم والد الأخير بخطبة إرشيد من والدها الحاضر في العزاء أيضًا. يدفن والد الشهيدة رأسه بين ذراعي والد الشهيد، ويسكبان دمعهما على غدِ يبكيانه فرحًا وحزنًا في آن.
أمّا فيلم «صالحة» للمخرجين لنا حجازي ويوسف عطوة، فيعالج علاقة الفلسطيني بمكانه ويومياته؛ العلاقة المائعة القائمة على الانجذاب والرفض أحيانًا. الأخير الذي سرعان ما يتحوّل إلى قبول، حين يخرج الفلسطيني من مكانه. «صالحة» تلميذة المدرسة التي تعيش في وادي أبو هندي البدويّ، والتي تضطر يوميًا للمشي لمسافة 3 كيلومترات إلى مدرستها، هي بطلة الفيلم بجانب خروفها «حنتوش». عوامل كثيرة هي التي بإمكانها أن تجعل المكان مجرّد ندبة لا تنطفئ على جسد الفلسطيني، فصالحة تعيش بلا إمدادات كهرباء أو مياه أو مواصلات بفعل الاحتلال. تظفر «صالحة» بخروفها «حنتوش». يعوّضها عن أجنحتها المقصوصة بجناحين له يمكّنها من أن تطير معه إلى إسبانيا، حيث تقابل لاعب الكرة الدولي ليونيل ميسي. يطلب منها الأخير البقاء هناك، لكنها ترفض ذلك وتعود إلى مكانها وميلادها الأول. تسأل صالحة: «من يحلب الغنم ويصنع الجبنة التي تقتات عائلتي من ريعها، في ظلّ غياب والدي الأسير، إن لم أرجع إلى مكاني وأهلي؟». كأنّ صالحة بذلك ترى أن أيّ غد بلا مكانها، لا يمكن أن يعوّل عليه. ما يؤخذ على الفيلم وتيرته البطيئة التي خلقت بعض السأم أحيانًا.
أما فيلم «موطني» للمخرجة نغم كيلاني، فقد ساءَل مفهوم الهوّية، فهل هو ذو الاحتمال الواحد، أم أنّ بإمكانه أن يخترع هوّيات أخرى صغيرة تتفوّق أحيانًا على الهوّية المشتركة؟ حطّت المخرجة رحالها في نابلس، وبدأت تقتفي هذه الجيوب الهوياتية الصغيرة، بين «ابن مخيم» و «ابن بلدة قديمة» و «ابن مدينة»، لكنها نسيت الفلاح ولم تستنطقه في فيلمها. كما أنها وقعت في فخ الابتذال الوطني أحيانًا، وقدّمت صورتين تنطويان على مفارقة كبيرة دون أن يمرّ المشاهد بأيّ طقس عبور بين الحالتين. كانت معظم أجزاء الفيلم عبارة عن أحاديث شخصية مثالية عن الهوّية، تتمحور حول أن هذه الخلافات الدامية والسلاح المنتشر لا يعبّران عن نابلس. كان ينقص الفيلم أن ينحّي نفسه جانبًا عن الأجواء الرومانتيكية، ويضع يده في قعر الكأس لا سطحه. لكن إنما لا بأس، خصوصًا أن ثقافة «سينما المرأة» في فلسطين لا تزال تحبو على قدميها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى