التسجيلي الفلسطيني «طائر الشمس»: فنان وكاميرا أمام الجدار الرهيب

راشد عيسى

لا يتوقف الفلسطينيون عن اختراع رموزهم، فتلك مهمة ملحّة ويومية فرضها احتلال لم يكفّ يوماً عن محاولات السطو على رموز وصور وأرشيف أصحاب الأرض. لم يكن السطو على اسم المكان أول تلك المحاولات، ولا الزي الشعبي الفلسطيني المطرز الذي اتخذه لباساً موحداً ذات مرة لمضيفات الطيران الإسرائيلي، حسب ما يرد في الفيلم التسجيلي «طائر الشمس»، كان آخرها.
فيلم «طائر الشمس» (جائزة ابن بطوطة « للتفرّد في مهرجان أوروبا الشرق للفيلم الوثائقي في دورته الرابعة في مدينة طنجة- الأردن، فلسطين وقطر 2015) يشكّل جزءاً من سعي الفلسطينيين ذاك، حيث يسهم بتوثيق تجربة فنان فلسطيني أراد اختراع ختم، عندما وجد أن ليس من حق الفلسطينيين أن يمنحوا تأشيرة لسائح أراد زيارة بلدهم، وأن السائح عليه أن يحصل، رسمياً، على تأشيرة وموافقة إسرائيلية، كي يزور بلدة فلسطينية.
يروي الفنان الفلسطيني خالد جرار، بطل «طائر الشمس» وشخصيته المحورية، كيف خطرت له فكرة الختم، وفكرة التصميم المكوِّن للختم، حيث وجد أن «طائر الشمس الفلسطيني»، الموثق بهذا الاسم في قواميس الطيور العالمية، كما يقول، رمزاً لائقاً ومعبّراً يمكن للعالم أن يتعرّف عبره على جذور سكان هذه البلاد.
بداية الفيلم (إخراج عائد نبعة، مواليد عمّان 1981) ستكون مع لقطة لآلة تحفر على الخشب صورة لطائر الشمس قبالة زهرة ياسمين مع كلمتين بالعربية والانكليزية: «دولة فلسطين». الفكرة إذاً تكمن هنا، لا في إعادة اختراع رمز فلسطيني وحسب، بل في اختراع دولة للفلسطينيين. صورة آلة الحفر، وصوتها شكّلا لازمة يعود إليها الفيلم في أكثر من مشهد، ولم يُرِد المخرج أن يحذف صوت الآلة «المزعج»، وكان بإمكانه أن يكتفي بالمشهد مع موسيقى مرفقة، لكن على ما يبدو كان صوت الحفر ضرورياً وأعمق تأثيراً، كان يصعب الحصول على معنى الحفر من دون ذلك الصوت، هذا الذي قد يصبح صوتاً معبوداً ما دام ينقش الكلمة الحلم.
سيلتقي الفيلم، مدير الأرشيف الفلسطيني أحمد مروات، متحدثاً من مدينة الناصرة عن اسم فلسطين وكيف كان يظهر في وثائق رسمية قبل نكبة العام 1948، وكيف جرى تبديل الطوابع البريدية التي تحمل رموزاً فلسطينية، إلى طوابع تحمل صور شخصيات إسرائيلية بعد النكبة. وهنا يظهر أن إعادة الاعتبار لاسم فلسطين ليس شأناً خاصاً بالفنان جرار، فهناك جهود موازية تحفر في أمكنة أخرى.
بعد إنجاز الختم سيمضي بطل الفيلم خالد جرار إلى كراجات المسافرين في رام الله، هناك حيث يحاول إقناع سياح أجانب بوضع الختم على جوازات سفرهم، ورغم أنه أمر لا يخلو من المخاطرة، سيجد جرار من يستجيب لطلبه.

نحّاتو أختام

سيأخذ الختم طريقه إلى جوازات سفر الكثيرين، من بينهم ناشطة حقوقية يهودية أمريكية تحمل جواز سفر إسرائيليا، هي أليسون رامير، وهي وضعت الختم على جوازها الأمريكي أولاً ثم الإسرائيلي. رامير لا تكتفي بمغامرة ختم يحمل اسم «دولة فلسطين» على الجواز وحسب، فهي تخوض تجربة العيش في رام الله، لتثبت للإسرائيليين، على ما تقول، أن بإمكان امرأة يهودية أن تعيش إلى جانب الفلسطينيين بأمان وسعادة.
تقول رامير: «دائماً كان الختم (على جوازها) يشكل إرباكاً للجنود، لكن المشكلة الكبرى كانت في مطار إسرائيلي. سألني مسؤول ما هذا الختم، فقلت: هذا ختم دولة فلسطين. أجاب بأن لا وجود لشيء اسمه فلسطين. فقلت: هم موجودون قبلكم. وهكذا تم إلغاء جواز سفري».
جرار أيضاً لا يكتفي بطائر الشمس على الختم، فهو صمّم طابعاً بريدياً يحمل صورة الطائر.
يسافر بختمه وطوابعه إلى فرنسا، حيث يتقدم لمركز البريد الفرنسي بطلب طباعة طابعه بشكل رسمي، يأتي الجواب بالرفض، لكنه لا يكفّ عن المحاولة، سيرسل إلى عواصم أخرى، وما رفضته باريس سترحب به برلين، حيث سيطبع البريد الألماني حوالى ثمانية وعشرين ألف طابع.
في باريس لا يستطيع مخرج الفيلم مقاومة إغراء حكاية جاءته على هامش ترويج الطوابع البريدية. سيشيع خبر إضراب المعتقلة الفلسطينية في السجون الإسرائيلية هنا شلبي، فيقوم الفنان جرار بـ «تغيير» اسم ساحة الجمهورية في وسط باريس حين يلصق اسم شلبي فوق اسم الساحة. الأمر مثير للاهتمام بالطبع، ومغرٍ، لكن ربما لا يقع تماماً في سياق مسار الفيلم.
هذا الإغراء تشبهه تجربة المغني الفلسطيني شادي زقطان المؤثرة، الذي يجهد هو الآخر في توثيق يوميات وأحلام الفلسطينيين عبر الأغنية، لكن ظهوره يبدو زائداً عن حاجة الفيلم، وربما كان كافياً مشهد يظهر فيه زقطان وجرار مع طفل يغنون قبالة مشهد الشمس.
ربما أراد الفيلم أن يؤكد أن هناك طرقاً عديدة لتصميم الأختام، وأن بإمكان الجميع أن ينحتوا أختامهم ويرسموا طوابعهم بطريقة ما. لجرار نفسه محاولات هنا وهناك. واحدة منها الفيلم التسجيلي الذي يحققه جرار بعنوان «متسللون» (فيلم «طائر الشمس» يفرد وقتاً لمتابعة كيف يُنجَز تسجيلي آخر، أي أننا نصبح أمام فيلم في قلب الفيلم، مثل منام بقلب منام آخر)، ويحكي عن تسلّل الفلسطينيين بمساعدة مهربين مختصين إلى بيوتهم في القدس، أو حديث جرار عن معرضه الذي أقامه على حاجز إسرائيلي، معتبراً إياه فرصة كي يرى الزوّار تجربة عبور الحاجز، أكثر من مشاهدة المعرض نفسه، فتلك حوادث كانت جزءاً من يومياته حيث يعيش. كي يرى الفلسطينيون صورتهم، وكي يرى الجنود مساوئهم.

كاميرا أمام الجدار

يعثر الفيلم على بطل آخر مواز لبطله الفلسطيني، هو فنان فرنسي سبق له أن زار فلسطين ورأى بأم العين معاناة الفلسطينيين. قرر أن يقوم، من دون أن يعلم شيئاً عن تجربة جرار، بتصميم طوابع بريدية فلسطينية، وقد جاءت طوابعه أكثر مباشرة من طوابع جرار، فقد حملت رموزاً فلسطينية متداولة ومعروفة، زيتون، برتقال، شخصيات فلسطينية مثل غسان كنفاني وإدوارد سعيد، وسواهما. يحاول هو الآخر طباعة طوابعه البريدية في فرنسا ويجابه بالرفض.
حين يعلم جان ايف بيزيان، وهذا هو اسم الفنان الفرنسي، بتجربة الفلسطيني خالد جرار يسعى للقائه، يذهب إليه حين يعلم عن مشاركته في بينالي برلين. يلتقي الفنانان. ربما لا أثر واضحاً لهذا اللقاء على المستوى العملي حيث يتابع كل شغفه ورسالته (هنا لا بد من الإشارة إلى مشهد لقاء الفنانيْن في المقهى يعيد فيه جرار على مسمع الفنان الفرنسي ما عرفه المشاهدون طوال الفيلم، وبالتالي هذا حديث فائض آخر)، لكن لا شك أن الفيلم أراد أن يحدّث عن هذا الإيمان، الذي لا بد أن يجد له صدى في مكان آخر، وعن هذا الإحساس بالعدل في مكان قد لا يعنيه ما يحدث في الجهة الأخرى من العالم، وكان بإمكانه أن يتصرف متجاهلاً ما يحدث هناك.
سوى أن الفنان الفرنسي مؤمن بقضية الفلسطينيين بجنون، يروح يصمم طوابعه، ويلصقها أينما وصلت يداه. يقرر أن يرسل رسائله الخاصة إلى العالم، ومن بينها رسالة لأوباما وأخرى للرئيس الفرنسي هولاند. نراه بالفعل يكتب ويضع رسالته في صندوق البريد، في مشهد لا يفوته أن يصور الرسالة وصندوق البريد ودراجة تتكئ على سور ليوحي بالصورة الرومانسية المألوفة لساعي البريد. لكن الأجمل من هذه اللقطة مشهد جهاز الموسيقى في مرسم الفنان الفرنسي. ركّزت
الكاميرا طويلاً على إبرة الجهاز تدور فتعطي نغماً فرنسياً جميلاً، إنه مشهد مواز لذاك الذي شهدناه في البداية لإبرة الحفر على الخشب، تدور فترسم طائراً للشمس ودولةً لفلسطين.
تأخذ الأغراض، الأدوات حيزاً كبيراً من التصوير، فإلى جانب جهاز الحفر، هناك ريشة الرسام، والختم بيده لا يتزحزح، والكاميرا الخاصة به، خصوصاً تلك التي ظهرت في المشهد الأخير، حيث تصوب الكاميرا على خاصرة الفنان واقفاً أمام جدار الفصل العملاق، تظهر كتلة على خاصرته تدفعنا لتوهمها كسلاح حربيّ، لكن مع لقطة مقربة سنميّز كاميرا وحسب: فنان وكاميرا أمام الجدار الرهيب.
لا يمكن للمشاهد إلا أن يقع في غرام فيلم «طائر الشمس»، شخصياته وتفاصيله. الناس الذين لديهم هذه الأحلام الكبيرة يدفعون بك لتذكّر عبارة تقول إن الحقيقة ما هي إلا هذا المجرى، ما إن تحفره الأيدي حتى تأخذ المياه طريقها إليه، حتى يصبح نهراً.
يخترع خالد جرار ختماً لجواز سفر، ويخترع جان ايف بيزيان طوابع بريدية، وشادي
زقطان أغنية، ثم يخترع عائد نبعة فيلماً يسميه «طائر الشمس». فيلم يستحق هذا الاسم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى