سركون بولص.. البداية

عباس بيضون

منذ بلغني خبر وفاة سركون بولص وأنا أفكر من يخرج من المطهر. لم استعجل الأمر ومن الظلم أن نستعجل وأحرى بنا ان نخلد إلى الصمت في انتظار ان ينجلي الأمر وينفك الرصد عن اسم الرجل وأثره. بيد اننا ننتظر عبثا فتلك طريق العائدون منها قلة. وقلما يعود واحد الا لسبب يتخطى شخصه ويتخطى أثره. لا اعرف متى يعود ذكر الواحد إلى الدوران وبأية وسائل فقد مرت عقود على وفاة السياب وما من دليل على خلاص الرجل الا صمود اسمه. وأما سركون الذي لم يمر بظرف تاريخي كالسياب، فالأرجح ان ثمة عوائق تحبس اسمه أهمها أن قصيدة النثر هي نفسها لم تخرج من المطهر. لم يمر وقت كاف على غياب سركون بولص لكنه، كما نلاحظ، يزداد غياباً، واظن ان ما قام به خالد المعالي في دار الجمل، من جمع حوارات سركون وترجماته. اظن انها جرأة نرجو ان تكون في محلها وان يحرك هذا العمل حجرا راسيا وان يعيد طرح اسم سركون على مستقبل الأدب العربي.
لم أباشر قراءة سركون إلا حين توفر له كتاب ولم يكن مستعجلاً في ذلك، بل تأخر عنه وقتاً غير قصير. وجدنا الشاعر الذي فاجأنا في غير عدد من «مواقف» مجلة أدونيس مرة واحدة في كتاب. كان سبقه شعراء كثر من غير جيله في قصيدة النثر، وصار لهذه القصيدة رواد وسابقون واوائل ومجايلون. كانت قصيدة النثر قد استقرت وشاعت. وكان بين أيدينا نماذج كثيرة لها. بعض هذه النماذج، وربما اغلبها، قرأناها بقدر من المجازفة. كانت في الأغلب استفزازاً فحسب للغة وللشعر. كانت تكسر سياقات اللغة وتكسر بنية القصيدة وتتوعر هنا وهناك فلا يبقى منها سوى صدى الاستفزاز وأثره. كان بين قصائدها ما لا يتوخى الاستفزاز لكنه هكذا يتأخر درجة عن شغل القصيدة وشغل اللغة. مثل هذه القصائد كانت محيرة فكأنها لم تفتح بابا حقيقياً لقصيدة النثر، فيما كان سواها أيضاً محير كأنه لم يفتح بابا الا لمعركة بقيت على الباب. كان شعر سركون بولص يأتي في حين ترسخ نموذج أو نماذج قلقة لقصيدة النثر. نماذج لا تؤسس فعلاً بل تبقى خاماً كمحاولات لم تكتمل، نماذج تبقى بين ان تسلس أكثر ما يجب للنثر العتي كما كان يسمى آنذاك، أو تبالغ في تعسفها ونزاعها حتى لا يقوم منها سوى الشظايا والكسور والعقد.
الأرجح ان قصيدة سركون لم تكن هنا ولا هناك. لقد بدأت هذه القصيدة من بداية حقيقية ولم تتعثر على طريق البداية. لقد بدأت من نموذج كان ينبني بدون ان يتملكه القلق وبدون ان يتوعر في أحد جوانبه أو في كل جوانبه، وبدون ان يبدو شظايا واحتدامات وعقداً لاستفزاز حانق وغضب يكتّل الكلام من البداية ويجعله مرضوضاً متقرحاً من الأول، ويمنعه هكذا عن ان يتسق أو يتشكل أو ينبني. كانت قصيدة النثر في بدء امرها عاجزة عن ان تنشئ قصيدة وكل ما تنتجه في هذا الباب منافرات وكسور ومعاضلات، وفي أحيان سرداً يبقى على الحافة او يتحول إلى لغي وامتشاق مبكر. والمهم ان ما قرأنا، لسركون في كتاباته الأولى لم يكن يشكو من هذه المعاضلة. لم يكن مجموعة رضوض لغوية ولا قروحاً ولا وعورة، لم تكن تجربته في الكتابة من هذا الباب. لم تكن بالتأكيد معاندة للغة ولا تحطيماً لها. لم تكن مع ذلك أقل جسارة ولا اقل استفزازاً، لكنها ليست الجسارة بحت الشكلية، لم تكن لعبا بالألفاظ أو على الألفاظ لم تكن بحثاً عن بداية لا تتحقق. الأرجح ان الكلام كان يبدأ لأنه يعرف ما يليه، ولأنه مصبوب في الأساس كفكرة واحدة، ولأن اللغة كانت أيضاً معمل الفكر ولأن القصيدة كانت تولد كعمل لا كمجموعة كسور ولا كانتشار فلكي وكرمام متنافرات. كان هناك في القصيدة سياقها الذي يتحدى لكن يتسلسل. يرفض لكن بإيجاب يتملك القصيدة ويقيمها على قواعدها، لقد قرأنا سركون بولص فكان شعره أشبه بتلك القصائد التي قرأناها في لغاتها أو في ترجماتها كانت أشبه بالنموذج الذي تكون منها. لقد أوجد سركون بولص لغة بدون أن يتخلى عن معاناته للغة وأوجد قصيدة في الوقت الذي كانت فيه قصيدة النثر عاجزة عن صناعة قصيدة. كانت قصيدته مع ذلك لا تمتنع عن شيء لكنها لا تتنازل عن شيء. كان الشعر موجوداً في البداية بدون تحطيم القصيدة من أجل العثور عليه.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى