“وردة” والطريق الصعب

يامن محمد

تتالت المحاولات الفنية بعد الثورة السورية لمقاربة واقع تعاقبت فصول تطوراته، وتصاعدت فداحته. في هذا الواقع كانت تبدو المقاربة الروائية، في مجال السينما، الأكثر ندرة لأنها الأقل إلحاحاً، هذا عدا عن أنها الأصعب من ناحية الصناعة والإنتاج، أضف إليه وعورة العملية الفنية، الإبداعية بشكل خاص، وتمنّع تكونها في في عدم الاستقرار، دون وصول المجريات إلى خواتيمها. وفق ذلك، لا يبدو للكثيرين أن الوقت حان، بعد مرور أكثر من خمس سنوات على اندلاع الثورة، لهذه المقاربة، رغم وجود تجارب قليلة تضيع في غابة الوثائقي “الشاسعة”.

لكن على ما يبدو أيضاً؛ وجود صاحب المشروع خارج سوريا، في مناخ بديل، وبتوفر جهات داعمة لإنتاج مشاريع أفلام روائية، وقنوات تلفزيونية غربية تعرضها، هذا ربما يخلق فرصة للبعض ممن يفضلون الروائي في مقاربتهم للواقع السوري. لكن هل تكون النتيجة، في النهاية، أننا أمام سينما روائية، أم سينما روائية “بديلة”؟
فلم “وردة” لقتيبة برهمجي الذي عُرض مؤخراً على قناة “آر.تي” الفرنسية، يبدو من أوائل ومن أكثر التجارب اكتمالاً في هذا المضمار. وهو إذ يحاول أن يمارس السينما بأجود مستوى ممكن فإن طول الفيلم لم يتجاوز ست عشرة دقيقة. العنوان “وردة” هو اسم لشخصية سنراها في آخر الفيلم، مع أن بطله طفل صغير يدعى “أمين”، من يعيش مع من تبدو أنها أمه، وأيضاً أخته الصغيرة التي لم تبلغ سن الكلام والمشي بعد، في بقايا بيت مهلهل.
الفيلم شحيح بالعبارات المنطوقة. في مكان مقفر يبدو أنه ما تبقى من العالم بعد حرب عالمية ثالثة. صمت الإنسان هنا تعوّضه أصوات أخرى للسلاح لكنها أيضاً لا تطغى طوال الفيلم، اختار برهمجي أن يكون الصمت هو الطاغي، لكنه أيضاً صمتٌ قلق، كصمت صحراء بالنسبة إلى كائن هش.

إذاً صمتٌ تخترقه خطوات أمين في مسيره لتدبير شؤون أسرته المعدمة، وإذ يصطاد حمامة ليأكل لحمها مع أمه، يجد رسالة مربوطة في قدمها يقرأها ويُخبئها جيداً. هكذا يتابع أمين سيره حتى يعود في ليلة مظلمة ويدخل “بيته” المحاصر بجنود مسلحّين فيختبئ متمدداً إلى جوار جثة رجل. يبحث عن أمه بعد مغادرتهم فيجدها مختبئة وراء قماشة مع ابنتها التي قضت خنقاً بيد والدتها المذعورة.

يتابع الفيلم بث إشاراته عبر ما يصادفه أمين في سيره وحقيبة المدرسة على ظهره، كجندي جريح يساعده أمين ويسأله في المقابل عن بيت وردة بنت “الداية”. يصل أمين إلى مبتغاه أخيراً ويسلم الرسالة التي احتفظ بها إلى وردة. تطلب منه أن يقرأ الرسالة، المرسلة من بلدة أخرى لتنقل أخبار وأحوال تلك البلدة، والحصار الخانق المضروب عليها، واقتراب نفاد آخر كميات الطعام هناك. ومن هذه الأخبار أن والدة وردة تحتضر وتريدها أن تعرف أنها “أكثر شيء تحبه في هذه الدنيا”. في طريق عودته يمرّ بمسلحين يعدمون رجلاً “عسكرياً” يعتبرونه خائناً، ثم يصل “بيته” فلا يجد أحداً فيه ويتابع سيره في كادر تغرب فيه الشمس.
هكذا الداية إذاً ستموت، والشمس تغرب، وسينفد ما تبقّى من طعام. وهكذا لم تكن الرسالة موجهة إلى وردة صراحة، إلا أن أمين رأى أن عليه تسليمها إليها، من أجل بث خبر/عاطفة يخص مولّدة أطفال ستموت، إلى ابنتها المسماة وردة. يترك لنا المخرج حرية التأويل رغم ما يقدمه من جرعات مركزة تتماشى مع تخيلّه لهيكل البناء الدرامي لحكايته.

يقول برهمجي إنه اختار الحياد في صناعته للفيلم، لا يتحدث بشيء سياسي مباشر، لا يحدد الأطراف، يدينها أو يتبنى وجهة نظرها. وإن كان قصدَ الحياد السياسي فهو بالتأكيد لم يكن كذلك على المستوى الإنساني.
وعلى المستوى الفني انتقى بعناية ما يريد قوله متخلياً عن الصخب الأجوف مقدراً جماليات السينما وتفاصيل كوادرها، بالرغم مما يشعره المتابع من بعد عن واقع يريد المخرج التحدث عنه، أو بعبارة أدق “جفاء” يفرضه في الغالب واقع آخر لصناعة الفيلم في شرط خاص. أو أخطاء طفيفة، كخطأ الراكور في مشهد اختناق الطفلة إذ نجد بين لقطتين أن الأم قد غيرت اليد التي تمسك بها وجه ابنتها. في هذه التجربة نحن أمام سينما روائية “بديلة” في ظاهرها، لكنها تكتنز الكثير من بذور سينما روائية حقيقية.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى