بسمة النمري: الأسئلة الصعبة تثير شهيتي للكتابة

حنلن عقيل

عد سبع مجموعات قصصية، صدرت مؤخرًا الرواية الأولى للكاتبة الأردنية بسمة النمري بعنوان “المُنْشَدِه”، وعن أسباب اتجاهها لكتابة الرواية بعد اقتصارها السابق على مجال القصة توضح النمري أن الأفكار التي قامتْ عليها الرواية كانتْ قد ابتدأتْ تتعمّق بمرور السنوات، وكانت دائمة الانشغال بها وبتخيّل الأحداث التي ستُترجم تلك الأفكار من خلالها، حتى إذا حان الوقت المقدّر لها، أفرغت جلّ وقتها وانكبّت على صياغة كلّ ذلك في كلماتٍ تتدفّق وسطورٍ تتوالى إلى أنْ اكتمل العمل، فكانتْ “المُنْشَدِه” التي لم يكن هناك من جنسٍ أدبيِّ غير الرواية، تحمّله كلّ ما أرادت قوله ليحكيها.
رحلة الخلاص

تتحدث النمري عن روايتها قائلة “تدور أحداثها حول محورين رئيسيين: الأول هو تلك الحيوات المتوازية مع الحياة التي نحياها الآن، لكنها تجري في أبعاد أخرى لا ندركها في الأحوال العادية، وأصل تلك الحيوات هو الأفكار المنبثقة من العقل والتي لا تفنى لأنها طاقة في الأصل، لكنها تتحول إلى أشكال أخرى في أبعاد مختلفة، أما المحور الثاني فيدور حول شخصيّة ‘المنشده’ الذي أُوحي لبطلة الرواية أنْ تبحث فيه وعنه لتكشف ماهيته وتعثر عليه في نهاية المطاف، وخلال رحلتها المضنية في البحث عنه تدرك البطلة أنّ ظهوره في حياتها كان يهدف إلى مساعدتها على الوصول إلى خلاصها”.

وتتابع “يكشف المنشده للبطلة أنّ بذرة الخيانة التي اختارتها الروح منذ البدء كي تحقّق ذاتها ستبقى لعنةً أبديّةً تختم دائرة رحلة الخلاص، الذي هو عودة الروح الإنسانيّة إلى أصلها الذي انتُزعتْ منه ذات خيانةٍ تمّتْ بفكرةٍ طارئةٍ عبرتْ العقل الكوني المطلق، اختارتها تلك الروح بإرادتها الحرّة الخالصة، فكانت النتيجة أنْ فصلتْها عن روح الله، وحرمتْها بذلك من جنّتها التي هي في اتّحادها بالروح الكليّة المطلقة، وكانتْ وراء انحدارها إلى سكنها المادّي الذي غدا فيه جحيمها، والذي حين تجسّدتْ تلك الروح فيه، تأكّد لها يقيناً انفصالها الفعلي الموجع عن حقيقتها الأصليّة، عن الله”.

وتوضح النمري أن كلّ ذلك يتحقّق في الرواية من خلال بطلةٍ وحيدةٍ تجول أروقة الرواية، تحاول عن طريق حوارها مع ذاتها أنْ تجيب عن أسئلتها الصعبة التي تقلق سكينتها وتحيّرها، مثل سؤال الخير والشر، سؤال الله والخلق، سؤال القدر، الكون والوجود، مستعينةً بتداعي الذكريات التي عاشتها، بخاصّةٍ ذكريات طفولتها المضطربة التي تحفل بأحداثٍ كانتْ تفوق قدرة الطفلة آنذاك على استيعابها، والتي من خلال استدعاء أحداثها تسترجع مواقف الشخصيّات المؤثّرة التي كانتْ تؤثّث تلك الأحداث.

وعن الصعوبات التي واجهتها في كتابة رواية بعوالمها الرحبة على عكس ما اعتادت عليه من تكثيف واختزال في القصة القصيرة، تلفت النمري إلى أن البداية مع القصّة القصيرة كانت في مجموعاتها القصصيّة الأربع الأُوَل: “منعطفات خطرة”، “رجل حقيقي”، “حجرة مظلمة”، “أقرب بكثير مما تتصوّر”، انتقلت بعدها إلى القصّة القصيرة جداً في الثلاثيّة “سفر الرؤى”، “كذلك على الأرض”، و”ما لا يُرى”، أي نحو المزيد من التكثيف ومن الاختزال، ومن تحميل فضاء النص أضعاف ما يحكيه النص ذاته، وكان السبب وراء ذلك أنّ الأفكار التي كانتْ تجول بعقلها تدفعها نحو الكتابة في جنس القصّة القصيرة، والقصيرة جداً، لكن في رواية “المنشده” استرسلت في كتابتها دون تكلّفٍ، ودون قصد في البحث عن طرقٍ جديدةٍ لكتابتها”.

وتتابع “كان الأمر يجري بسلاسةٍ، وبمتعةٍ لا سبيل لوصفها. عن تجربتي تلك أقول إنّ الفكرة كانتْ رأس الكلمة، وأصل الفكرة كان العقل الذي تحكمه الروح التي يأتمر بأمرها، يسير بتوجيهٍ منها ليجسّدها في الكلمة، كان هذا هو الأساس في كتابة المُنْشَدِه”.
السؤال الصعب

ثمة أفكار فلسفية وتجارب روحية وغوص عميق في أغوار النفس البشرية تتكئ عليها أعمال النمري القصصية. هنا تلفت ضيفتنا إلى أن الكلمة جسد، والمعنى فيها هو الروح، وقد تستوفي القصّة شروطها، لكن يبقى هناك شيء ما ناقص فيها، إنْ لم تنهض بها روحٌ خلاّقةٌ تهزّها وتحييها. السرد الجميل وحده لا يصنع قصّةً، إذْ لا بدّ لها أنْ تجترح جديداً يغيّر شيئاً في الكون ويضيف إليه، فيغدو بعدها مختلفاً عمّا كان قبلها، وإلاّ فَلِمَ الكتابة؟.. لذا على الكاتب أنْ يثري الفكرة التي تسكن عقل قصّته”.

وتنوه النمري بأن على القاص الحقيقي أنْ يكون شجاعاً أوّلاً، متمرّداً ثائراً على الضحالة، يلقي سؤاله الصعب، ويلهث سعياً وراء إجابةٍ تقنعه، دون أنْ يلقي بالاً للحدود المفروضة سلفاً، والتي تكبّل العقل وتحدّ إبداعه وقدرته على الخلق، ويضمّن قصّته كلّ ذلك، تلك هي مهمّته الأصليّة التي وُجد لأجلها.

توصف أعمال بسمة النمري القصصية بـ”الوصفية الشعرية” وهي فنانة تشكيلية إلى جانب عملها القصصي، وهنا تؤكد النمري أنها لا تستطيع أن تنكر أنّ اللّوحة قد أثْرَتْ قصّتها وأضافتْ إليها الكثير. هذا الامتزاج بين الفنّين وتزاوج الكلمة باللّون أنتجا جنساً أدبيّاً جديداً، بالنسبة إليها على الأقل، تتداخل فيه الحدود بين التشكيل والقص، لتغدو اللّوحة قصّة مكتوبة باللّون، والقصّة ترسم لوحةً بالكلمات.
الكتابة أحد وجوه الإبداع البشري
وتشير النمري إلى أن الأسئلة الجائعة إلى إجاباتٍ تسدّ نهمها هي التي تثير شهيّتها وتدفعها إلى الكتابة، تلك الأسئلة مطارق تنهال على عقلها وتلحّ عليه، ترهقه، تضنيه، حتى أنها لا تترك لها فسحةً تمارس فيها فعل الحياة، أو حتّى فعل العيش دون أنْ تبحث في أمرها، وتعمل فيها فكرها. هي أسئلة الحياة، وأسئلة ما بعد الحياة، وكلّ ما لا تستطيع إدراكه بحواس المادّة الخمس يشكّل هاجساً لديها، يحثّها على محاولة النجاة من الوقوع في فخ ما هو عاديّ.

تبيّن النمري أن الكتابة هي أحد وجوه الإبداع البشري، والأصل فيها هو الحس الإنساني الذي يحكمه عقل الكاتب، قبل أنْ نلتفتَ لاسم مَن وضعه أو جنسه.

وتتابع “تلك التسميات؛ الأدب النسوي، الأدب النسائي…، لا أؤمن بها بتّةً، إلاّ في حال أنْ أضافتْ إلى ثقتي بأن الكاتبة الأنثى هي الأكثر قدرةً ومهارةً على تناول الموضوعات والقضايا التي تتعلّق بها، وذلك لأنها تحياها حقيقةً، تحسّ بها وبأثرها عليها فلا تُنظّر من بعيدٍ حين تكتبها، وبالتالي، دون تقصّدٍ منها، سينعكس ذلك على نصّها الذي بالضرورة سيحكيها بصورة أفضل ممّا لو كتبه أحدٌ غيرها، لذا حين تكتب المرأة ذاتها تنحاز بذلك إلى كتابة ما تتقنه وتبدع أكثر فيه، وهذا لا يدينها، ولا يستوجب أبداً أنْ تُثار قضيّة ضدّها تدفعها إلى تبرير نفسها وتبرئة منجزها”.

تقول “في نهاية الأمر لا يسعني إلا أنْ أشفق على مجتمع ذكوري ظالم يقيّد حرّية المرأة فيما تكتب وترسم وتبدع، يدينها إنْ تجلّتْ روحها بمنجزٍ، وبنصوصٍ تحلّق عالياً في سماء الإبداع الإنساني الصافي، تلك الإبداعات المدهشة التي لو أتيحتْ لها الفرصة أنْ تنطلق بكلّ طاقتها الكامنة فيها، بعيداً عن أساليب التورية والترميز والتلميح”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى