الفن من منظور إسلامي..للكاتب ولد عبد الله عبد اللطيف

خاص (الجسرة)

أول ما يتبادر إلى ذهني عند سماع كلمة الفن هي تلك الرسومات البدائية التي خلفها الإنسان في الكهوف والمغارات قبل آلاف السنين. أحيانا يتساءل البعض منا سائلا نفسه عن مدى جدوى الفن ونفعه ، فهو لا يوقف القنابل في السماء ولا يمنع المجاعات ولا يحد من انتشار الأوبئة . فما فائدة الفن على الرغم من كل ذلك وهل يمكن الاستغناء عنه بأنه من أحد مظاهر الترفيه والبذخ ؟
لو نظرنا عبر التاريخ الإسلامي سنرى أن الفن لم يتجسد في العمارة الإسلامية كما يجب بل كان محصورا فقط في المنمنمات والنقوش التي تمثل أشكالا لنباتات وفي بعض الأحيان لآيات قرآنية. بينما نرى في الحضارة الغربية أن العمارة اتخذت منحى آخر إذ نجد أشكالا هندسية في غاية الجمال خلال المرحلة الغوتية ،الباروكية والكلاسيكية لتتطور فيما بعد إلى عمارة أكثر روعة و هيبة من السابق وهذا ما نلاحظه في العمارة النيوكلاسيكية ثم في العمارة الحديثة . أما من ناحية الأدب العربي فكان الشعر وحيدا وفي بعض الأحيان غير مستحبا بسبب تحريمه من طرف القرءان ” والشعراء يتبعهم الغاوون ” ونحن نعلم أن ” أكذب الشعر أعذبه” ومن منا لم يقرأ خمريات أبو نواس وزد على ذلك أن لكل شاعر شيطان إما الهوبر للشعر الجيد أو هوجل للشعر الرديء . لم تصلنا إلا نتف قليلة من النثر على غرار ألف ليلة وليلة و كليلة ودمنة وبعض مؤلفات الجاحظ أبو العلاء المعري , حي ابن يقضان وكل الأمثلة تعد محصورة جدا نظرا إلى المدة الطويلة مرت بها الحضارة الإسلامية . فقد أحرقت معظم الأعمال المهمة في الأدب العربي بسبب اختلاف في الرأي أو تجاوز للتشريع الديني. و كان نحت التماثيل والصور ضمن الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها أبدا. ومن منا لم يسمع عن زرياب وإسهامه في تطور الموسيقى والفن على حد سواء وكيف اعتبره الفقهاء أنه كان سببا\د رئيسيا في سقوط الأندلس . حتى أن ظهور مدرسة البصرة ثم الكوفة في رسم الخطوط العربية كان أمرا حتميا بعد رفض كل تمثيل لشكل آخر.
كيف سيطر الدين على الإبداع وكيف قام بتوجيهه ؟ هل في الإسلام تحريم للرسم والنحت وحتى الخيال الذي هو سمة كل عقل بشري ؟ ثم هل كان الإسلام سببا في تأخر الفن العربي إلى هذا الوضع الذي نشهده اليوم ؟
الموسيقى والرسم والنحت و النثر والشعر والعديد من الفنون كانت ترزح تحت وطأة الاحكام المسبقة والسلبية المستمدة من قراءتنا السطحية للتعاليم الإسلامية. فربما تجد شخصا ما يعيش في هذا القرن لا يزال يفتي ويحرم الرسم أو النحت لأنها فيها تشبها بالخالق بينما يرن هاتفه في جيبه أثناء الخطبة بنغمات موسيقية ثم يشاهد نفسه يلقي عظته عبر التلفاز ، أليس هذا سلخا للذات الإنسانية وسلخا للحقيقة. ولمعرفة علة الأمر وسبب رفض الذات التي فطر عليها بنو البشر علينا أن ننقد التاريخ الذي تكونت فيه هذه الأحكام السلبية والمسبقة. علينا نقد الخطاب الذي اعتمد عليه هؤلاء المشرعون في إصدار أحكامهم ضد الفن وتجريم كل عمل ابدعي لا يكون على مقاسهم. ولكي لا أسهب في الموضوع سأذكر فقط أن الرسول صلى الله عليه وسلم حارب عبادة الأصنام ومنع من العودة إلى التماثيل سواء للتزيين أو لغير ذلك.كما هناك بعض المصادر تخبرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن تعليق الصور في البيوت أو في أي مكان آخر. ولكن لا نجد آية صريحة في القرآن الكريم تمنع من النحت أو الرسم بل هناك آيات تمنع من عبادة الأوثان لكي نتجنب الشرك بالله. إذن التحريم هنا جاء نظرا للظروف التي كانت سائدة في ذلك العصر. وهي عبادة الأوثان . إن النور الإلهي الذي أتى به القرآن يهدف إلى محبة الله فقط وعدم الشرك به أما النور الفطري فيهدف إلى معرفة الخير واستعماله والتأمل في الطبيعة التي هي إرادة الله ومشيئته. وهذا ما يجسده الرسم والنحت فهما طريقان للارتقاء الروحي عن طريق تقليد الطبيعة وفهمها فهما أعمق. إذ أن الوحي أو النور الإلهي مغزاه تربية النفوس وتقريبها من الخالق.
يقول سبينوزا أن كل علم سواء الفلسفة أو اللاهوت يقوم على مبادئ مختلفة اختلافا جذريا عن المبادئ التي تقوم عليها العلم الآخر. فغاية العلم الحقيقة. وغاية الإيمان الطاعة. تقوم الفلسفة على مبادئ و أفكار صحيحة. وتستمد من الطبيعة وحدها وتعرف بالنور الطبيعي ويقوم الإيمان على التاريخ وفقه اللغة ويستمد من القرآن وحده ويعرف بالوحي. قد تتساءلون لماذا ذكرت في السطور الأخيرة كلمة فلسفة. وجوابي هو أن فلسفة الجمال لا تنفصل عن الفلسفة، إذ تستمد أصولها من مذاهب الفلاسفة فتقوم بتعريفه ووضع قوانين له عن طريق النور الفطري (العقل). يرى هيجل أن الفن يكفى حاجة الإنسان إلى الوعى بعالمه الداخلى و عالمه الخارجى على السواء بواسطة تلك الموضوعات التى تعكس له ذاته و فعله ليرى نفسه من خلالها ، الفن فى أسمى درجاته تعبير عن مضمون روحانى باطنى فيترتب على ذلك أنه كلما أفصحت الأعمال الفنية عن الباطن الروحانى كلما ارتقت فى سلم الكمال و نضجت فى الشكل . ويرى هيجل ان تصوير الشكل الإنسانى كان اكتشافا ساعد فنى النحت و التصوير على الارتقاء من مرحلة دنيا إلى مرحلة اعلى فى تصوير الروح ، فالشكل الخارجى للجسم الإنسانى ادل على الباطن و أكثر شفافية فى التعبير عن الروح من النحت و التصوير الذى يتخذ موضوعاته من عالم الطبيعة أو العالم الحيوانى . العضو الذى تتمثل فيه الروح بأقصى درجة إنما هي العين ، إذ أن الروح لا تبصر بالعين فحسب بل إنها تصبح مبصرة بها ، أى أن الذى يميز العين عن باقى أعضاء الجسم الانسانى هو انها العضو الذى به أيضاً نكون مرئيين ، ينبغى أن يتحول العمل الفنى عيناً فى كل أجزائه حتى يكتسب قدرة على الدلالة على الباطن . وهذا ما توصل إليه سبينوزا بالضبط عندما أكد بأن النور الفطري (العقل) هو الطريق الصحيح لمعرفة الله .
إن الجمال الداخلي والمعرفة بشقيها المكتسبة والفطرية، اللذة والألم والرغبة، كلها تمثل أساسا ترتكز عليه الفنون بكل أنواعها. الفن تعبير عن جوهر الروح الإنسانية ورفضها هو رفض لهذه الروح التي أراد الله لها أن تكون بهذا الشكل. فنظرتنا للأمور عليها أن تتغير عما كانت عليه وأن نعيد تقييمنا للبعد الديني وعلاقته بالفن ، ثم إبراء ذمة القرآن مما اقترفه المسلمون من ظلم في حق أنفسهم أولا وفي حق الآخرين منذ عصور طويلة . لندع كل شيء في مكانه ولنتخلص من قيودنا الفكرية حتى نعبر عن مشاعرنا وأحاسيسنا بشكل حقيقي كما ترد في لحظة هدوء وتأمل . بل لتكن كلحظة لامعة كشروق الشمس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى