كشف المستور في رواية ‘فضيحة’

هدية حسين

 
من حين لآخر أتخلص من بعض الكتب بإهدائها للأصدقاء، تلك الكتب التي سبق أن قرأتها، بعض هذه الكتب رافقني منذ فترة طويلة، ولم يبق معي الا القليل مما يمكن العودة إليه. هذا لا يعني أن ما أتخلص منه أقل قيمة مما يتبقى لدي، وإنما يدخل ضمن ما أسميه (صحبة لمرة واحدة) أي أنها تُقرأ لمرة واحدة ولها وجه واحد من القراءة، في حين تحتاج بعض الكتب الى قراءة ثانية وثالثة لأنها تحتمل التأويل ولها قراءات بمستويات متعددة ومختلفة، أو أنها تحكي عن حقبة تاريخية ستكون مرجعاً للكتابات اللاحقة، أو أنك تحتفظ بها لأنك مأخوذ باسم كاتبها، لذلك تضعها في صدر مكتبتك، وتعود لقراءءتها كلما دعت الضرورة.

من الكتب التي أعتز بها وأحرص علىها رواية “فضيحة” للياباني شوساكو اندو، التي قرأتها مرتين عندما كنت في بغداد.. صدرت عن دار المأمون للترجمة والنشر في العام 1991، وقد بقيت مع بعض مقتنياتي في بغداد بعد خروجي من العراق العام 1999، وقمت بمحاولات يائسة خلال الأعوام التالية للحصول عليها في مكتبات عمان ودمشق والقاهرة دون جدوى.

كنت بحاجة وقتها لأقرأها للمرة الثالثة، ثم وصلتني عن طريق الصديقة ابتسام عبدالله، وأتذكر أنني التقيت وفداً يابانياً في أحد التجمعات الثقافية وتطرقت حينها الى هذه الرواية التي أدهشتني، فأكد لي أحدهم بأنه لا توجد رواية لشوساكو اندو بهذا العنوان، وربما اختار الناشر أو المترجم فلاح رحيم عنوان “فضيحة” ليناسب أحداث الرواية أكثر من العنوان الأصلي الذي قد يتغير معناه عند الترجمة.

وعلى كل حال ليس هذا ما أريد الحديث عنه، وإنما شيء آخر يمكن وضعه على شكل سؤال: لماذا تجذبنا بعض الكتب الى الحد الذي نقرؤها أكثر من مرة؟ ليس ثمة صعوبة في الإجابة، فإذا أخذنا رواية “فضيحة” مثالاً فإنها رواية تكشف لك في كل مرة مستوىً جديداً من القراءة، أو تأويلاً مختلفاً، أو متعة مضافة، ذلك أنها تختار الإنسان غاية، وتضعه تحت مجهر دقيق، وما عليك سوى أن تتبع خطوط الضوء المسلطة عليه، وتكشف مجاهل النفس البشرية بكل تناقضاتها.

هذا الإنسان الذي تظن بأنك تعرفه جيداً، ثم تكتشف بأنك لا تعرف عنه أي شيء برغم السنوات التي قضيتها معه، إنها رواية ترينا الوجه الخفي من ذواتنا، وتفضح ما هو مزيف من نفوسنا، ورواية النفاق الاجتماعي المخبوء وراء الجمال الذي يبدو ناصعاً بينما هو مشوّه ومتلون، وحكاية المناطق القصية من أعماقنا، تلك التي لا نراها بالدقة التي هي عليها، ليبقى السؤال: من نحن؟ إنه السؤال الذي يراودنا كلما نظرنا الى صورنا الفوتوغرافية، وربما نتساءل: مثل بطل الرواية: ها أنت ذا وهذا وجهك، ولكن ما مدى الاختلاف بينك وبين وجهك الذي عرضته الصورة؟

بطل الرواية كاتب مشهور، وقور وملتزم، أمضى حياته محافظاً على صورته الجميلة عند القراء، ولذلك فهو يحرص على الكتابات ذات المضامين الأخلاقية العالية، لكن صحفياً ناشئاً يشوه تلك الصورة بالكشف عن الجوانب الخفية التي لا يعرفها القراء في حياة الكاتب، يتتبع خطاه ويضعه أمام قرائه حين يريهم الأعمال الفاحشة التي يمارسها بتكتم شديد، عندها تحدث الفضيحة، وفي الحقيقة فإن شوساكو اندو يضعنا وجهاً لوجه أمام أنفسنا المشطورة الى أجزاء بين ما نقوله وما نفعله.

في الرواية الكثير من التشويق، وهناك أكثر من خيط يشدك ويجعلك تتبع الصحفي كما لو أنه يكشف ذاتك الجوانية، ستمضي معه وهو يفك الخيوط المتشابكة بحس بوليسي للكشف عن ضحيته، وستشعر بأن المؤلف يمسك بك حتى آخر السطور وأنت متأرجح بين يقين وشك مما يحدث، وكلما أمسكت بخيط يوصلك الى الحقيقة ذهب بك خيط آخر الى التضليل، وكلما اقتنعت بشيء تداعت قناعتك بقناعة مضادة، وسوف تتساءل ثانية مثل بطل الرواية: هل كان الكاتب داخل النص يرتدي قناعاً في علاقاته مع القراء ويخفي روحه الخبيثة، أم أنه بريء وأن شبيهاً له ينتحل شخصيته ليقوم بأفعال شنيعة، مستغلاً حالة الشبه بينه وبين الكاتب؟

تلك هي الكتب التي يجب أن لا تفرط بها، الكتب التي كلما عدت إليها كشفت لك جانباً من الجوانب الخفية في ذاتك، وما أحرانا بالتعرف الى تلك الذوات الغامضة في دواخلنا. وهكذا يفعل الكتّاب الكبار الذين يكتبون ليس لملء الفراغ أو تزجية الوقت وإنما لأنهم يضعون نصب أعينهم الإنسان أولاً وأخيراً.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى