شعر المقاومة بين المضمون السياسي والمضمون الأدبي

نبيل عودة

 
السؤال الذي أشغلني خلال عقود عديدة: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، ام شهرة سياسية؟

بصيغة أخرى: هل يمكن اعتبار شعر المقاومة حدثا أدبيا أم حدثا سياسيا؟

ترددت كثيرا قبل أن أتناول هذا الموضوع الذي أشغلني فكريا منذ وقت طويل، لكني امتنعت عن الخوض به من قناعتي أن موقفي لن يكون مقبولا لدى أوساط واسعة من عشاق شعر تلك المرحلة المبكرة التي وصفت بشعر المقاومة، وأطلق لقب شعراء المقاومة على الشعراء، وكان الاهتمام من نصيب أربعة شعراء، هم محمود درويش، سميح القاسم، سالم جبران وتوفيق زياد.

طبعا لن أخوض في أسباب تجاهل أسماء أخرى، ولكني أود ان أشير إلى أن الشعراء الأربعة المذكورين هم من أعضاء الحزب الشيوعي، ومن العاملين بصحافته، وهي الصحافة السياسية والثقافية الوحيدة تقريبا التي كانت لفترة طويلة مسيطرة على الإعلام داخل المجتمع العربي في الأراضي المحتلة، والصحف الأخرى مثلت السلطة او أحزابا سلطوية.

الى جانب أن الحزب الشيوعي لعب دورا تاريخيا لا يمكن إنكاره بمواجهة سياسة التجهيل والحصار الثقافي، والرقابة العسكرية على المنشورات، لذا شكلت صحافة الحزب الشيوعي نافذة مهمة وشبه وحيدة على الابداع الثقافي العربي. ولا أبالغ بالقول إن الحزب وصحافته كان الجامعة الثقافية والسياسية التي تخرج منها أبرز الأدباء والمناضلين.

أيضا لا بد من اشارة مهمة، ان منابر الحزب الشيوعي ومهرجاناته السياسية، أبرزت الشعراء اعضاء الحزب وابرزهم هم الشعراء الأربعة المذكورين., رغم وجود أسماء أخرى لها تجربة مهمة، سابقة ولاحقة، لكنّ أسماءها طويت ولم تحظ بالشهرة، رغم ان شعرهم لا يقل بمضامينه السياسية والوطنية عن الشعراء الأربعة، شعراء شيوعيون أيضا، مثلا الشاعر والكاتب المخضرم حنا ابراهيم، والشيوعي سابقا الشاعر حنا أبو حنا، والعديد من الشعراء المبدعين الآخرين.

طبعا لا أنفي القدرات الابداعية للشعراء الأربعة وقدراتهم التعبيرية التي أثارت حماس الجمهور. حيث كانت القصيدة أهم من خطاب سياسي، ودمج الشعر بالمهرجانات السياسية التي نظمها في وقته الحزب الشيوعي.

لا بد لي أن أشير الى ان بعض النقد السلبي الذي يوجه للمرحلة المبكرة من قصائد شعراء المقاومة، هو كون شعرهم أكثر مهرجانية، شعرا منبريا، خطابيا أو شعارتيا. ورؤيتي كانت ان نقاد هذا الشعر لم يعيشوا المراحل التاريخية التي فجرت قصائد شعرائنا. ان تبرير هذا الشعر وعظمته، تنجلي بقوتها اذا كشفنا النقاب عن خلفية الأحداث التي فجرت هذا اللون الشعري ولا أعرف شعرا عربيا بمستواه وبقدرته أن يصبح سلاحا قويا بأيدي مليون عربي يعانون من الاضطهاد القومي، يعاملهم العالم العربي (في تلك الفترة) كخونة، أو شبه صهاينة، حتى كانت حرب عام 1967 ليكتشف اولا الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني كنوزنا الشعرية.

ويصعق العالم العربي بشعر مقاوم متحد يواجه المخرز بكفه العزلاء بجرأة وقوة ولا يتردد بدفع حريته الشخصية ومستقبله، ثمنا للدفاع عن وطنه وحقوق شعبه وفضح ممارسات النظام العنصري الابرتهايدي وممارساته الاجرامية ضد أقلية عربية محاصرة ومعزولة عن محيطها، ينظر اليها العالم العربي بعين الشك والازدراء، لكنها تهب بقوة دفاعا عن شرعية وجودها بوطنها وتهز الأرض ضد الممارسات الاجرامية للنظام الصهيوني.

اليوم نظرتنا للأدب بدأت تتغير، واقعنا تغير أيضا، التواصل مع الثقافة العربية حطم الحواجز. نظرتي أيضا للأدب تجاوزت حماسة تلك الحقبة التي شكلت مضامين شعر المقاومة.

اليوم نظرتنا أصبحت فكرية فلسفية وأدبية جمالية إبداعية، لم يعد الشعر المهرجاني المباشر يثير حماستنا، تلك مرحلة مهمة، لكنها مرحلة سياسية وليست مرحلة أدبية بمضمونها الأساسي.

النماذج كثيرة لذلك الشعر السياسي أو المهرجاني. وهذه بعض النماذج:

محمود درويش في “بطاقة هوية” يقول:

سجل

أنا عربي

ورقم بطاقتي خمسون ألف

وأطفالي ثمانية

وتاسعهم سيأتي بعد صيف

فهل تغضب

سالم جبران في قصيدة “القائمة السوداء” يقول:

سجل اسمي في القائمة السوداء

سجل اسم أبي، أمي، إخواني

سجل .. حتى حيطاني!

في بيتي لن تلقى إلا شرفاء!!

سميح القاسم في قصيدة “تقدموا” يقول:

تقدموا

تقدموا

كل سماء فوقكم جهنمُ

وكل أرض تحتكم جهنمُ

تقدموا

يموت منا الطفل والشيخ

ولا يستسلمُ

وتسقط الأم على ابنائها القتلى

ولا تستسلم

تقدموا

توفيق زياد في قصيدة “شيوعيون” يقول:

قالوا: شيوعيّون…

قلتُ: أجلهم

حمراً بعزمهم الشعوب تُحرّرُ

قالوا: شيوعيّون

قلت منيةٌ موقوتةٌ للظالمين تُقدّرُ

قالوا: شيوعيّون

قلت: أزاهرُ بأريجها هَذي الدّنيا تتعطّرُ

قالوا: وهم عملاءُ

قلت: تأمركت لُسُنٌ

وأضحت للدّولارِ تُؤجّرُ

لا أنفي أهمية هذا الشعر في واقعنا بعد النكبة، كان شعرا يمدنا بالإصرار على النضال وتحدي السلطة الغاشمة.

انما اكرر ان ما أطرحه ليس علاجيا نقديا لتلك الفترة، انما تقييما لا بد منه لتلك القصائد، لا شك لدي بقوة الصياغة وبراعة المعاني الثورية في هذا الشعر. انما أتساءل: هل يمكن اعتبار القيمة الأدبية لقصائد تلك المرحلة تتفوق على القيمة السياسية؟ حقا كانت القصيدة سلاحا تعبويا تثويريا للجماهير، هذا دور يجعلنا نضعها بمرتبة تاريخية مهمة نتيجة الدور الذي لعبته في صراعنا السياسي ومواجهتنا لسياسة عنصرية قمعية.

ما أدعيه أن ما غاب عن الدارسين لقصائد تلك المرحلة، هو تناول الجانب الأدبي، الجمالي والابداعي.. لأن النص السياسي المباشر حتى لو صيغ شعريا يبقى خطابا سياسيا. يمكن ان نصفه انه رائع ، وشعر مقاوم، كان الشاعر مناضلا ويتعرض للسجن ويواصل التحدي بالكلمة الموزونة الثورية. لا أقلل من قيمة شعر تلك المرحلة وضرورتها.. لكن هذا لا يعني ان نتجاهل القيمة الأدبية. وما زلت أنا شخصيا أدخل في نوستالجيا (حنين) كلما قرأت قصائد شعراء المقاومة في تلك المرحلة. كانوا شعراء سياسيين وشعر السياسة الذي أبدعوه كان قريبا لنفسيتنا وإصرارنا على النضال من أجل حقوقنا.

أكرر ان قصائد تلك المرحلة كانت لها جماليتها الخاصة، وتغلغلت بنفوسنا وحفظناها ورددناها في لقاءاتنا، ووصفها بقصائد سياسية لا يقلل من أهميتها التاريخية الثقافية. لذلك التساؤل الذي طرحته في مقدمة مقالي يبقى مفتوحا لآراء القراء والنقاد: هل شهرة أدب المقاومة كانت شهرة أدبية في مضمونها، أم شهرة سياسية؟ وما هي نسبية العلاقة بين السياسي والأدبي؟

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى