جحيم الحياة في المدن الكبرى عبر ‘ليلة قبيل الغابة’

أبو بكر العيادي

اكتشف برنار ماري كولتيس (1948 /1989) المسرح عندما غادر مسقط رأسه ستراسبورغ، ولم يكن قد بلغ العشرين بعد، وانتقل إلى مدينة ميتز، هناك حضر عرض مسرحية “ميديا” لسينيكا في إخراج للأرجنتيني خورخي لافيلّي وبطولة النجمة ماريا كاساريس، فكان اكتشافا مذهلا فتح له أبواب الفن الرابع، حتى أنه قال في ما بعد “لو لم يحدث ذلك، لما مارست المسرح إطلاقا”.

بدأ التأليف والإخراج منذ العام 1970، بـ”المرارات” عن طفولة مكسيم غوركي، و”المسيرة” عن نشيد الإنشاد، و”محاكمة مترنحة” عن “الجريمة والعقاب” لدستويفسكي، وأسس في الظرف نفسه فرقته الخاصة “مسرح الرصيف”، قبل أن يتنقل في فرنسا وخارجها، في أميركا اللاتينية وأفريقيا بخاصة، ويبدع الأعمال التي كانت سببا في شهرته مثل “في عزلة حقول القطن” و”معركة الزنجي والكلاب” و”الرصيف الغربي” و”ليلة قبيل الغابة”، هذا النص الذي ألفه كولتيس عام 1977، وأخرجه للكوميدي فرانسيز جان لوك بوتيه عام 1981.

هو نص من المسرح التجريبي يتألف من جملة واحدة تمسح ثلاثا وستين صفحة، شديد التكثيف، كثير الاستطراد، مع خطابات مكررة، تعمل عمل كوبليه في أغنية، بطله شخص لا نعرف من هو، ولا في أي مكان يوجد، ولا لمن يتوجه بحديثه.

في عالم ليلي يعبره هاربا دون التفات، يُحدّث غريبا صادفه عن كل شيء، حتى عن الحب، أو كما يقول كولتيس نفسه “رجل يحاول أن يستبقي بكل الكلمات التي يستطيع إيجادها شخصا مجهولا صادفه في عطفة شارع ذات مساء، وهو وحيد”.

رجل هارب سئم الوحدة، “حيث لكل شخص حكايته الخاصة في ركنه المنزوي” يحدث المارّ عن دنياه، وهي ضاحية يهطل فيها المطر، يحس فيها الناس بالغربة، ويعيشون البطالة، أو هكذا شاءها المخرج هذه المرة.

ذلك أن باتريس شيرو، عندما أخرج هذه المسرحية عام 2010، كان قد تصور بطل هذا النص نزيل مستشفى، دامي الجبين، ممددا على فراش، فوق ركح خال، يهذي هذيانا محموما حتى الموت.

أما كريستيان فريديريك فقد استعان، في هذا العرض الذي يتواصل على خشبة مسرح “الجيب” بباريس، بالفنان أنكي بلال، رسام الأشرطة المصورة المعروف، فأنجز له ديكورا أسود عاريا، لا يؤثث عريه سوى قاعدة مغطاة بقطعة من البلاستيك الأسود، يظهر فوقها البطل المجهول تحت وابل من المطر، يحاول أن يحتمي من الزخات ما استطاع، وعلى وجهه علامات خوف لا نعرف مصدرها، هل هو خوف من عنف المدينة الذي يحاصره من كل جانب أم هو عنف توقه ورغبته التي لا تحدّ؟

وما إن ينطق حتى يكشف عن حيوية غامرة، فيجهد بكل قواه أن يحوز رضا الآخر، المخاطَب المجهول، وتنعكس صيغ الخطاب في تغير نبرته وحركاته، تماشيا مع إيقاع جملة كولتيس التي لا تنتهي.

يوهمنا بأنه يمشي عبر المدينة، أثناء الليل، تحت المطر، دون أن يتوقف، ليبدو في النهاية مثل “الرجل الذي يترنح” لجاكوميتي، ثابتا في نهاية رصيف يواجه مجهولا قد يكون مضى في سبيله، أو لعله يناجي في الظلمة نفسه ليواجهها بما يحب وما يكره، لكأن ثمة مرآة بين شخص يتكلم وآخر لا يُرى، يوهمنا الكاتب بوجوده، ولكن المتفرج لا يقف له على أثر.

تتبدى المسرحية في البداية كلاما مسترسلا وقولا بلا حدود، ولكن ميل المتكلم إلى مخاطب مجهول يحتّم إيجاد نبرة خاصة يدرك المتفرج من خلالها ما تخلفه الوحدة من عذاب، وما تنطوي عليه رغبة التواصل من آمال.

وتبدو الشخصية وحيدة على الخشبة في مكان غير محدد، قد يكون تطابق عدة أمكنة في مكان واحد: عطفة شارع، مقهى، مترو، غابة تلوح عن بُعد.. ولكنه أقرب إلى فضاء ذهني، متخيل، فضاء شاب منغلق داخل العنف المديني، وداخل رغبته نفسها، ما جعل أداء الممثل مرهونا بدينامكية متذبذبة، للتعبير جسديا عن الملفوظ، المنحصر بين رغبة القول وتأكيد الذات والتحمس والانكسار والعودة إلى أعوام الطفولة، مع المحافظة على خيط الوصل مع الشخص المجهول.

نص عميق عن وحدة الإنسان في عصرنا هذا، وعن جحيم الحياة في المدن، يؤكد رفض الفرد الذوبان داخل كتلة، وسعيه المحموم لربط الصلة. يقول المخرج كريستيان فريدريك “أنا على يقين من أن هذا النص هو أيضا اعتراف طويل بالمتاعب التي يلقاها الفنان في إيجاد موطئ قدم داخل المجتمع”. طوال ساعة ونصف الساعة، ينفخ الممثل دوني لافان الروح في كلمات كولتيس، متمتما حينا، صارخا حينا آخر، مختنقا كأنه يزفر آخر أنفاسه أو يهمس بوصية، ليحاول التقرب من الآخر، بحثا عن أمل، أو عن شيء يتشبث به.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى