العناصر الدلالية والجمالية في أفلام المغربية أسماء المدير

فؤاد زويرق

لا يمكننا الحديث عن التجارب السينمائية المغربية، خصوصا تلك التي أنجزت بأياد نسوية دون الحديث عن تجربة أسماء المدير، المخرجة الشابة التي ولجت السينما من بابها الكبير، عشقها للصورة دفعها للدخول بين متاهاتها والتنقل بين دروبها، وسبر أغوارها من خلال رحلة أكاديمية استكشافية بدأت من المغرب، لتشمل بعد ذلك فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ثم روسيا، خلطة متنوعة ومختلفة من المدارس نهلت منها ثقافتها السينمائية بمختلف أجناسها لتعود بعد ذلك إلى وطنها محملة بأفكار جديدة ومفاهيم مغايرة للسائد، ظهرت جليا في أفلامها القصيرة المتعددة.

القيم الدلالية

تُشكل أفلامها القصيرة لوحة فسيفسائية متقنة الصنع، ترصد بتوازن عوالم المهمش بأبعادها الاجتماعية، لكن بمعالجة متفردة تروم استحضار قصص إنسانية معبرة بدلالات إيحائية، تحاكي قضايا مجتمعية في قالب درامي غير معقد، أفلام ببناء منطقي غير مشفر، متنها الحكائي بسيط للغاية لا يحمل بين طياته رسائل ملتبسة وغامضة، كما قد يستنتج البعض، خصوصا في فيلم ”جمعة مباركة” الذي قدم قراءة مختلفة لتركيبة المجتمع المغربي في فترة من الفترات، قراءة عالجتها بصريا بشكل إبداعي لم نألفه، رغم خيوطه ”السياسية” المتشابكة التي نسجتها الراوية/الشاهدة بعفوية، مرتكزة في ذلك على اجترار تفاصيل ذاكرتها، هذه الأخيرة التي شكلت وعاء الفيلم وشريانه، ومن خلالها وقفت المخرجة/ الراوية على فترات معينة من تاريخ عائلتها، تلك التي قد تمثل في مخيلة المُشاهد المجتمع الموسع والمتشعب بآرائه المختلفة ومواقفه المتعددة المتشنجة حد التصادم، ومع ذلك تجده يتحلق حول مائدة واحدة ويأكل من الصحن نفسه، في إشارة إلى المصير المشترك الذي يدفعه الى التعايش والتسامح. ويبقى هذا ”الخطاب السياسي” في الفيلم مجرد ضرورة استدعتها شخصياته، خصوصا الشخصية الرئيسية المحتفى بها (الخال مرزوق) ذاك الثوري الذي يمثل شباب الستينيات والسبعينيات، العائد من الاتحاد السوفييتي برؤى مختلفة وبفكر ”كُلياني” واضح، من خلال ما يردده دائما بأن ”التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرين”. وهي قولة تمجد القائد المنتصر وترسخ عظمته وقوته، وقد كانت منتشرة إبان سيادة الإيديولوجيات الكليانية، أو ما يعرف بالإيديولوجيات الشمولية، عدم إيمانه بالوسط يدخله دائرة اليسارالمتطرف، (فمن ليس من هؤلاء أو أولئك فهو منعدم غير موجود)، فهذا توجهه وهذا اعتقاده، وعبارته ”الحياة عبارة عن فائزين وخاسرين، مستغِلين ومستغَلين” تؤكد لنا ذلك، وقد اختزلت المخرجة كل هذه الافكار بطريقة ذكية في الدمية الروسية الـ»ماتريوشكا» أو «بابوشكا» الحاملة لرموز عدة من بينها ستالين، الذي يحيلنا في الفيلم الى شخصية الخال. وفي المقابل هناك شقيقه الخال حميد المتدين ”طالبان” كما وصفته الراوية في الفيلم، بالإضافة إلى أبيها الذي رُمز إليه بدمية تحمل على واجهتها صورة الملك الراحل الحسن الثاني، ربما للدلالة على انحيازه التام للنظام المغربي آنذاك. هاتان الشخصيتان الأخيرتان لم تقف عندهما المخرجة كثيرا، بل تمت الإشارة إليهما فقط حتى تظهر مدى اختلاف الميولات السياسية في عائلة تلعب فيها الأم /الحاجة (كما في باقي الأسر المغربية) دور المايسترو الذي يتوسط الأوركسترا ويوزع الأدوار بين أعضائها بديمقراطية وعدل، فلا فرق عنده بين من يعزف آلة الكمان أو آلة العود، فكل النغمات لديه متساوية، بل يكمل بعضها بعضا.
من بين الوحدات الدلالية المستعملة بذكاء أيضا في أفلام أسماء المدير، القاعة السينمائية وما تمثله من حلقة أساسية ضمن منظومة سينمائية متكاملة، وهي الحلقة المفقودة لدينا نحن في المغرب، وقد تناولتها المخرجة ضمن قصة درامية بسيطة في فيلمها الروائي القصير ”دوار السوليما”، إذ لم تعتمد التساؤلات النقدية المباشرة في تشريح هذه الظاهرة، أي ظاهرة اندثار قاعات السينما في البلاد، بل أحاطتها بحكاية ذات أبعاد حركية تعاقبية رمزية، مرتبطة بلغة بصرية ولفظية وموسيقية آثرت رصد هذه الأزمة من بعيد دون الدخول في متاهات وتفاصيل لن يتحملها الفيلم القصير، فاعتمادها مبدأ التكثيف بإتقان ساهم في بلورة مسار سردي واضح في زمن قصير(وهذا هو المطلوب)، مسار يرتكز على فكرة واحدة ووحيدة هي (النهوض بالقاعات السينمائية)، وهذا التكثيف لا يعني تخلي المخرجة عن البناء الهرمي التقليدي للحدث، بل بالعكس تم توظيفه بشكل يتناسب والاحتفاء بالمكان، حتى تجعل من الفكرة عنصرا قابلا للتداول والانتشار بين أكبر عدد ممكن من الجمهور، خصوصا أن هذا العمل يحاسب مجتمعا بأكمله ولا يخص فئة محددة أو مؤسسة بعينها، فصاحب القاعة مخطئ لأنه لم يبحث عن البديل لجذب الجمهور، بل تخلى بسهولة عن مشروعه إلى درجة أنه كتب على لوحة البيع كلمة (زريبة) وفي هذا احتقار لفضاء مقدس سينمائيا.
الجمهور المتمثل في سكان القرية مخطئ أيضا فهو لا يبادر الى استكشاف السينما فهو دائم الانتظار، والمبادرة عليها أن تأتي من الآخر، كما أن الفيلم أشار بطريقة أو بأخرى إلى غياب الدولة، حيث لم نرصد من بدايته إلى نهايته أي تدخل من قبلها لإنقاذ الصالة الوحيدة في المنطقة، ولا حتى صيانتها، هي إذن توليفة موفقة من الدلالات تصب في قالب سيميولوجي واحد يُحقق عبر هذه الثلاثية عناصر أزمة عليها أن تنتهي على أرض الواقع.

عنصر الموت

أفلام أسماء المدير لا تخلو من عنصر الموت، ليس بطبيعته المادية فحسب، بل ببعده الرمزي المعبر عن المستقبل أيضا، مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات، كما جاء في فيلمها ”ألوان الصمت” الذي احتفت فيه بالموت بلغة بصرية شاعرية هادئة، امتزجت فيها الكثير من مفردات الطبيعة كالبحر والسماء والغروب، فرغم أن هذا المشهد، وهو مشهد النهاية يعبر عن الحزن وآلام الفراق، لكن يبقى في مضمونه عرسا احتفاليا يحتفي بموت البؤس/الأب، وانبعاث أمل جديد/ الطفلة، تلك الإنسانة الخرساء الصامتة الطيبة المستسلمة، المتمردة الثائرة العنيدة فجأة بعد حادثة وفاة والدها، وبين الأب والطفلة هناك الأم المنتظرة والمترقبة للمستقبل، سواء قبل أو بعد حدث الموت، وأقوى مشهد يعبر عن وضعيتها هذه مشهد البداية، حيث تقف فيه جامدة صامتة بملابس بيضاء – وهو لون الحداد في المغرب- في مواجهة البحر الذي ابتلع زوجها وبينها وبينه (أي البحر) شبكة صيد تمثل رمز المستقبل الجميل، الذي كان يراهن عليه زوجها قبل وفاته، وتمثل في الآن نفسه أداة هلاكه وضياعه، لينهي الفيلم مسار أحداثه الدرامية بثنائية متقابلة هي الطفلة الحاضرة/الحياة والمستقبل، والأب الغائب/ الموت والماضي.
في فيلمها «جمعة مباركة» نجد الموت أيضا، موت الخال مرزوق، الذي يمثل – كما قلت سابقا- أقصى اليسار داخل العائلة، وما يدل على ذلك في الفيلم – بالإضافة إلى أفكاره- جلوسه الدائم على يسار والدته كل يوم جمعة، بينما باقي الشخصيات تجلس على يمينها وكلهم أصحاب رؤى سياسية مغايرة له، وربما وفاته بعد صراعه مع مرض السرطان فيها إشارة الى وضعية اليسار المغربي الذي يعاني من الترهل والمرض والموت أيضا.
الموت في هذين الفيلمين قد يتجاوز المادي المحسوس إلى خطاب مجازي يؤوله ويسقطه على حالات وظواهر أخرى نعيشها مجتمعيا، لكن في فيلم «دوار السوليما» نجد الموت بمفهوم آخر يهم الفضاء والمكان، مجاز يلامس ظاهرة غياب القاعات السينمائية، فإغلاق الصالة السينمائية الوحيدة بالقرية هو موت أيضا، وبث الحياة فيها من جديد هو أمل وتفاؤل مستقبلي.

عنصر الطفل

يحتل الطفل في أفلام أسماء المدير حيزا مهما، إذ نجده في جميع أفلامها تقريبا ففي فيلم «دوار السوليما» كان بارزا بقوة، بل كان صانع الحدث فيه، وتواجده كان بمثابة النواة التي تدور في فلكها باقي الشخصيات. حضوره أيضا في فيلم ”ألوان الصمت” كان محوريا، فهو تلك الفتاة الصغيرة الصامتة التي تمثل الجسر الرابط بين كل العناصر والشخصيات الفيلمية، وصمتها يعبر عن حالة وجودية ساكنة ترصد ببراءة طفولية وأمل عفوي الحياة الصاخبة القاسية من حولها، حياة البؤس والفقر والمعاناة، وتدفعنا نحن الجمهور لاستكشاف عوالم الطفل النفسية التي تجعله صامدا داخل هذه الدائرة الموحشة، وقد وقفت المخرجة على هذه الحالة وأبرزتها بقوة وأتقنت تسريبها بين الأحداث، حتى جعلتنا نتقمص دور الفتاة في مراقبة الحياة وانتظار الأمل. في فيلم ”جمعة مباركة” كانت الراوية هي الطفلة نفسها، فرغم أنها تروي الحكاية بلسان فتاة عدَّت طفولتها بسنوات، إلا أن الذاكرة المستعادة في العمل هي ذاكرة طفلة عاشت الأحداث وكانت شاهدة عليها، ومن خلالها تعرفنا على نظرة الطفلة للكثير من التفاصيل العائلية المرتبطة أساسا بتفاصيل أخرى أوسع تهم مجتمعا بأكمله.
حضور الطفل في أفلام أسماء المدير هو حضور مرتبط بذاتية المخرجة نفسها، فتوظيفه بقوة هو بمثابة استحضار الطفولة القابعة داخلها، طفولة محملة بالهواجس النفسية والاجتماعية، بحيث لا تلبث أن تظهر من تلقاء نفسها كلما انطلقت عملية التصوير. أما علاقته ببنية الفيلم الدرامية وكذا رؤيته الفكرية، فهي علاقة بسيطة غير معقدة نسبيا، لكنها في الآن نفسه معبرة وعميقة في طرحها، حيث نجد في فيلم ”دوار السوليما” ذاك الطفل الموهوب، المبتكر، المهووس بالصورة، البعيد عن عالم الطفل والمنغمس في عالم أكبر منه، عالم السينما بهواجسه ومشاكله. وفي فيلم ”ألوان الصمت” نجده فتاة منعزلة صامتة بعيدة أيضا عن عالم الكبار لكنها شاهدة عليه، وهي نفسها الفتاة/الشاهدة في فيلم ”جمعة مباركة” لكنها ليست صامتة ولا منعزلة، بل هي حاضرة بكل ثقلها المادي والمعنوي، حيث تشاهد وتحلل وتفسر وتستنتج.

خلاصة مفتوحة

تستخدم أسماء المدير في أفلامها أسلوبا سينمائيا بسيطا للغاية بلغة سردية أنيقة مركزة، بعيدة عن الحشو والتمطيط، توجهها يعتمد بشكل أساسي على عنصري الطفل والأمكنة الخارجية المفتوحة (بخلاف ”جمعة مباركة”)، وهي عناصر تذكرنا بالمدرسة الإيرانية، خصوصا مدرسة عباس كيارستمي وجعفر بناهي وسميرة مخملباف وغيرهم، حتى أننا نجد بعض الإكسسوارات المختارة في أعمال أسماء المدير، إضافة إلى فضاءات التصوير الخارجية تتشابهه نوعا ما مع تلك المستعملة في بعض الأفلام الإيرانية، وأعطي هنا كمثال اللوح الإعلاني لملصقات الأفلام، الذي يحمله الطفل على ظهره طيلة أحداث شريط «دوار السوليما» والألواح السوداء التي يحملها شخوص فيلم «اللوح الأسود» Blackboards لمخملباف، طبعا تختلف وظيفة اللوح في كلا الفيلمين، لكن الاكسسوار نفسه والهدف منه واحد. طبعا لا يعتبر هذا انتقاصا من قيمة أفلام أسماء المدير بل بالعكس فالمُشاهد المطلع قد يلمس هذا التقارب لكنه تقارب صحي مميز ومعالج بطريقة تقنية وجمالية مختلفة تماما.
يُظهر التراكم النوعي الذي حققته أسماء المدير في مجال الفيلم الروائي القصير تميزها الملحوظ في هذا الجنس السينمائي، وتمكنها من أدواته، وإتقانها لعملية الهدم والبناء التي تعتمد عليها لغته، كما يُظهر لنا استخدامها الجيد للإيقاع المتوازن والهادئ في سيرورة الأحداث، وهو إيقاع يجعل التفاعل أكثر قربا من مخيلة المُشاهد، ويكشف لنا عن قدرتها على اقتناص اللقطة وتحويلها إلى قلق معيش. أما شخصياتها الفيلمية المختارة بعناية فهي واقعية جدا ومتماهية مع كينونة المخرجة نفسها، وتجعل الرؤية أكثر وضوحا وشفافية.
وفي الأخير، يبقى أن نشير إلى أن لأسماء المدير خمسة أفلام روائية قصيرة هي «الرصاصة الأخيرة»، و«ألوان الصمت»، و«جنة»، و«جمعة مباركة»، و«دوار السوليما».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى