دافع عن استشراق إدوارد سعيد وانتقد ديموقراطية الغرب: تزفيتان تودوروف… تفكيك «التثاقف» والغيرية Feb-09

عبدالدائم السلامي

«أنا منفيٌّ بشكل عَرَضي» هكذا وصف تزفيتان تودوروف إقامته في باريس منذ أن وصلها عام 1963 قادما من بلغاريا لاستكمال دراساته العليا، حيث ظلّ – على امتداد نصف قرن قضّاه فيها- يعيش معزولا عن وسطها الثقافي، يمشي وحيدًا، مُتَكتِّما عن كلّ شيء، لا تربطه صلة حميمة بفئة المثقّفين فيها، ولا يتردّد عليه من الناس سوى نفرٍ من طلبته.
ونحن واجدون في كتابه «الإنسانُ المُهَجَّرُ» الذي خصّصه لكتابة سيرة منفاه ما يُحيلُ إلى إحساسه الدائم بمرارة الغربة، حيث يفتتحه بالقول: «منذ فترة طويلة استيقظُ مذعورا»، ويكتُبُ على ظهر الكتاب ذاته قوله: «يبدأ الإنسانُ يتألّم عندما يُقْتَلَعُ من وطنه: من الأفضل لنا أن نعيش بين أهالينا». وقد اتكأ على تجربته الخاصة ليجعل من المنفى، منذ ثمانينيات القرن الماضي، سؤالَه الوجوديَّ ومبحثًا سوسيولوجيَا جديدا انصبَّ جهده وكدُه فيه على تفكيك مسائل التثاقف والغَيْريّة والغربة، وصدمة التمثُّلات الثقافية، وبسبب ذلك أُعجب بمفهوم الاستشراق لدى إدوارد سعيد، وعاد إلى كتاباته مُحلِّلاً ومناقِشًا، معتبرا إياه أفضل مثال للمثقّف المنفي الذي يخوض أكبر حرب وجوديّة ظلّ فيها يعيش على أرضٍ هنا ويبحث عن أخرى هناك. يذكر أن تودوروف رحل عن عالمنا ليلة 7 فبراير/شباط 2017 جرّاء مرض عصبي، وترك كتابا قيد النشر سيظهر في شهر مارس/آذار المقبل عن دار فلاماريون الفرنسية بعنوان «انتصار الفنّان».
وحسبما جاء في سيرته، فإنه وُلد في الأول من مارس عام 1939 في مدينة صوفيا البلغارية لأبٍ هو تودور بوروف، يعمل أستاذا جامعيا، ولأُمّ هي هارتينا بيفا مسؤولة مكتبة. وجليّ أن هذا الوسط العائلي المثقّف سيكون له أثره الإيجابيّ في تكوين الطفل تودوروف، إذْ هو يذكر أن بيتهم كان مليئا بالكتب، وأنه قرأ كثيرا من الروايات وعمره لم يتجاوز الثامنة. عمل تودوروف مدرّسَ أدب بعد تخرّجه من جامعة صوفيا، ثم حصل على منحة دراسية غادر بمقتضاها بلغاريا إلى باريس، حيث نال درجة الدكتوراه في الآداب عام 1970 في كلية الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية. وفي عام 1973 تحصّل على الجنسية الفرنسية.
تتوزّع رحلة تودوروف الفكريّة على مرحلتيْن: مرحلة أولى اهتمّ فيها بالدراسات الأدبية، وما اتصل منها بالشكلانية والبنيوية والسيميائية، حيث فتح أعينَ الغرب والشرق على آراء الشكلانيين الروس، عبر ترجمة أهمّ كتبهم، وأسّس مع جيرار جينيت مجلة «الشعرية»، وكان أشهر كتاب له في هذه المرحلة هو «مدخل إلى الأدب العجائبي». وثاني المرحلتين هي تلك التي اهتمّ فيها بتاريخ الأفكار، وبكلّ ما هو من صُلب وظائف الإبداع، أي بجوهره، حيث ركّز اهتمامه على البحث في قضايا الإنسان في صلته بغيره على غرار مسائل حوار الثقافات، وأزمة الدّيمقراطية، وسوسيولوجيا المنفى، والتربية، ونقد الأنظمة الشمولية. وما ميّز هذه الفترة هو جرأتُه على نقد مساره الفكريّ، حيث أخضع مواقفه وآراءه السابقة إلى كثير من الأسئلة، على غرار ما جاء في كتابه «الأدب في خطر». تزوّج تودوروف من الكاتبة الكندية نانسي هيوستن عام 1979، وألّف معها كتاب «غناء البستان»، غير أنها تخلّت عنه بسبب ازدياد مصاعبه النفسية، وطلّقته سنة 2014 لتقترن بالفنان التشكيلي السويسري غي أوبَرْسون، ولعلّ في هذا ما يؤكّد غربة تودوروف ويُكَمِّل إطارَ مَشْهدِ منفاه.
عمل تزفيتان تودوروف ما بين عامي 1983 و1987 مديرا لمركز البحوث للفنون واللغة في فرنسا، ثم أستاذا زائرا في أمريكا في جامعات نيويورك، وكولومبيا، وهارفارد وييل، وكاليفورنيا، ونال مجموعة من الجوائز والأوسمة مثل جائزة أمير أستورياس في عام 2008.
تتميّز لغة تودوروف بالصرامة والتقشّف، وهو غير مهتمّ في كتاباته بالميل إلى البلاغة، على غرار ما نلفي في كتابات بارت ودولوز على سبيل المثال، وهو أمر ينبئ بحذره في التعامل مع لغة غير لغته الأصلية، ومع وسط ثقافي يشعر فيه بأنه «آخر» رغم مساهمته الفكرية الثرّة فيه. وهو إلى ذلك كثير الاطلاع على آداب العالَم وثقافاته، يستمع إلى الناس أكثر مما يتكلّم معهم، وفي خلال ذلك كان يسعى إلى فهم أوسع لأخلاقيات عصره ونقد انزياحاتها الجديدة المؤلمة، على حدّ ما جاء في كتابيه «الفوضى العالمية الجديدة» و«ذاكرة الشرّ، غواية الخير».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى