نقل عن التركية أعمال أورهان باموق وعزيز نيسين: التشكيلي والمترجم السوري عبد القادر عبد اللي يغادر تاركا عالما سيرياليا من صنعه

بسمة شيخو

اكتشف السوريون في الأول من آذار/مارس 2017 أنهم ما زالوا يملكون في قلوبهم متسعاً للحزن، لم ينتبهوا لوجوده قبل أن يملأه غياب عبد القادر عبد اللي (مواليد إدلب/ سوريا 1957) الذي فارق الحياة إثر مرضٍ أجبره على أن يغادر ويترك حرقة كبيرة في صدر الكثير من المثقفين السوريين والعرب، الذين يحملون فضله على أكتافهم، فقد فتح باباً أمامهم لولوج عالم الأدب التركي، ونقل أو ربما عمل جاهداً على نقل الحالة الثقافية التركية وجعلها تجارب حسيّة قريبةً من الوجدان العربي، بعيداً عن الأفكار التي تشوّه كل ما يمت لتركيا بصلة، باعتبارها استمراراً للاحتلال العثماني. أثبت عبد اللي أن هذا التعميم غير صحيح، وخلق لنا مئات الأصدقاء من الأتراك الساكنين في الروايات التركيّة، عن طريق ترجماته لكثير منها – كان المترجم الحصري للروائي التركي أورهان باموق- ومن بين ترجماته له «اسمي أحمر»، «ثلج»، «الكتاب الأسود»، «القلعة البيضاء».
كذلك ترجم لعزيز نيسن «زوبك»، «آه منا نحن معشر الحمير»، «الطريق الوحيد»، «سرنامة»، «الحمار الميت»، «في إحدى الدول». ولأوقاي ترياقي أوغلو «السلطان سليمان القانوني سيد العصر الرائع»، «السلطان الفاتح، فتح قسطنطينة». وللروائية إليف شافاق «قصر القمل». كذلك ترجم الأعمال الكاملة لأورهان ولي وغيره من الكتّاب الأتراك إيلبير أورتايلي، أورهان كمال، يشار كمال، إسكندر بالا.
لم يقف عبد القادر عند حدود الكتب والروايات، بل تجاوز حميمية قصصها، واقترب من المواطن العربي البعيد هذه المرة عن القراءة وأدخل الدراما التركيّة إلى بيته، فهو مترجم مسلسل «نور» وكذلك مسلسل «وادي الذئاب» ذائعي الصيت.
ترجمات عبد اللي بلغت خمسة وخمسين كتاباً لغاية 2014، لكن أهميته كمترجم لم تلغِ عبد اللي الكاتب، فنجده نشط في الكتابة في الشأن الثقافي والسياسي التركي في العديد من الصحف والمجلات، ولديه كتاب في النقد التشكيلي الساخر بعنوان «فرشاة» باعتباره خريج جامعة المعمار سنان في إسطنبول قسم فنون المسرح والمشهد، ماجستير في الرسوم المتحركة.
وفيه يناقش فن الكاريكاتير ويسلّط الضوء على التجارب العربية، مناقشاً ضوابط هذا الفن والأسباب الكامنة وراء ضعفه في العالم العربي؛ فيقول فيه: «يعتقد البعض أنه ليس ثمة ضوابط أو قواعد للكاريكاتير، فيطلقون هذه التسمية على أي عملية تشويه لرسم، أو حتى إنهم يرسمون رأساً لإنسان بنسب قريبة من الواقع لعدم استطاعتهم رسمه بالنسب الطبيعية تماما ـ وبالطريقة نفسها يرسمون الجسم، ولكن المفارقة أن الرأس كبير جداً، والجسم صغير جداً، فاختلال النسبة بين الرأس والجسم يجعل الشكل ـ حسب اعتقادهم ـ كاريكاتيرا. لا بد من الاعتراف بأن الكاريكاتير في بلادنا من أضعف ضروب الفن ـ ودائما كما هو معروف هنالك استثناءات»؛ «نحن نفتقر للصحف والمجلات المتخصصة في الكاريكاتير. ومن المعروف أن هذه الصحف على درجة كبيرة من الرواج، وتحقق مبيعات ضخمة في دول العالم، ولكن ليس ثمة من يقدم على مشروع من هذا النوع في بلادنا، لأن إنشاء مشروع كهذا يحتاج إلى ثلاثة عناصر رئيسية هي الموهبة ـ المال ـ الديمقراطية. صحيح أن المال متوفر والحمد لله، وأصحاب رؤوس الأموال باتوا يبحثون عن مشاريع لاستثماراتهم، ولكن العنصرين الآخرين غير متوفرين».
أما عن عبد القادر عبد اللي الفنان التشكيلي، فقد كان فناناً واضح الخط والهوية، لا يحتار من يطّلع على أعماله بأن ينسبه لأجداده بريتون ودالي، أبرز وجوه السريالية، حيث قام عبد اللي من خلال أعماله بترجمة الواقع المعاش برؤيةٍ فانتازية سريالية تعبّر تماماً عن حجم التناقضات المغروزة بين أسنان المجتمع، وعن كمية الألم اليومية التي يشحن بها الإنسان هنا.
وجود العيون ضمن اللوحة ثيمة مميزة لأعمال عبد اللي، فتكون المحور أحياناً، هناك عمل يصوّر عيوناً كثيرة متجاورة في رفوف خزانة، وكلّ منها يتعرّض لعذابٍ مختلف، المخرز، القضبان، التمزيق، والحُجب مرات… هكذا حتى تنتهي المجموعة المكوّنة من ثماني عشرة عيناً، وفي لوحةٍ أخرى نجد العين تعصر بيدٍ ضخمة، أو نجد المدى أصبح وجهاً، التلال هي تضاريسه، فتحتا الأنف واضحتان وعشب الشارب أيضاً، العينان هنا واحدةٌ تقف خلف خمس شجرات، وأخرى كالرادار تدور فوق برجٍ للكهرباء، تبحث عن بصيص أمل، قد تتجمع القزحيات بجانب بعضها لتشكّل سماء العمل- وذاك موجود في عدة لوحات-، فكأن السماء أصبحت مرآة تعكس العيون الشاخصة نحوها، وتحت هذه السماء نجد شواهد القبور وكأنها انقلبت عروشاً لهياكل عظمية بأيديهم آلاتٍ موسيقية ترحب بالقادم الجديد. العروش أيضاً عنصر متكرر في أعمال الراحل عبد اللي فنجد عرشاً مرتفعاً عدة درجات، تعلوه قبةٌ مزخرفة ملوّنة بلا عمد، وكأن العرش يمنح ساكنه منزلةً تقارب منزلة الآلهة.
الأجساد سائلة القوام، مرنة كما هي في معظم الأعمال السريالية، تلتف حول بعضها، لتجف أيديها في النهاية وتبدو كشجرةٍ يابسة، تترك أعضاءها تتوزّع كما يحلو لها، لا مكان لنظامٍ ضمن هذا المجتمع المفتوح نحو الخيال.
لوحات الفنان عبد اللي كانت فرصةً لنا لمشاركة هذا المبدع عالم أحلامه الغرائبي، البعيد كلّ البعد عن القواعد والمنطق، حيث الأبنية والأبراج تتلوّى كأفاع، والجمادات تملك أعضاءً بشرية، عبد اللي كان يعجن التكوينات بعد أن يستدعيها من عالم اللاوعي المليء بالمشاهدات الواعية والواقعية، ويرميها على سطح اللوحة بدقةٍ شديدة، صانعاً عالماً جديداً مليئاً بالخوف والتوتر والعنف، هذه اللوحات كانت عاكسةً للقلق الذي يملأ داخل هذا الفنان الحسّاس والممتلئ بهموم بلده وأهله، وكانت أيضاً تحمل مزجاً مكثّفاً بين العقل والجنون، بين الوعي والخيال؛ عاكسةً الواقع المهين والمخيف الذي وصل له الإنسان ضمن عالم مليء بالمعاناة، وكذلك يصوّر الإنسان المهمّش فيبدو وكأنه منشفةٌ في الحمام على سطحها تتوزّع الملامح، معلقٌة وراء الباب؛ وحالة الرجاء والاستجداء واضحة من خلال عملٍ آخر يعكس واقعنا بشكلٍ مباشر هذه المرة، مئذنة وصاروخ يطلان علينا من منظور «عين النملة» – اللقطة مأخوذة من الأسفل- بينهما خيوط عنكبوت معلّقة عليها أجساد بشرية بملقطي غسيل، وفي أسفل المشهد أكفٌ تحاول الإمساك بالفراغ.
كان عبد اللي يعتمد الدقة في رسومه ليبرز التفاصيل كاملة في محاولةٍ لخلق عالمٍ موازٍ بأشكاله وتكويناته، يكمل هذا العالم ويملأه بالكلمات ليصنع عبد القادر عبد اللي من الكتابة والترجمة والرسم بانوراما واسعة تجمع الحاضر بالمستقبل والواقع بالخيال، تفتح نافذةً بين الترك والعرب، وعلى حافتها تتمشّى أعماله السريالية ضاحكةً من عدمية الواقع وبلادة المنطق.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى