إن كان هناك أدب نسوي فلماذا لا يوجد أدب ذكوري

زكي الصدير

لم تكن مجموعة الشاعرة فاطمة إحسان الثانية، “قلب مائل للزرقة”، مجرد نصوص تشاغب فضاءاتها الممكنة أو المستحيلة، بل كانت أشبه بمانفستو أو إعلان وجود لصوت المرأة الوحيدة التي لا تمتلك صوتها حين تموت دون أن ينتبه لوجودها أحد. فهي “لا تجيد القفز أو الصراخ”.

لهذا لا تنظر ضيفتنا إلى العمل الأدبي كمشروع ينبغي التخطيط له في جداول زمنية، فكل ما تفعله حيال تجربتها أنها تدفع قلقها وارتباكاتها بالسعي للاقتراب من كتابة ما تريد بالطريقة التي تريدها آملةً أن تردم مع الوقت الفجوة التي تفصلها عن القصيدة الحلم.
الصوت الخاص

مجموعة “قلب مائل للزرقة”، الصادرة عن دار مسعى 2017، مشغولة بتفكيك وأنسنة الكائنات، إنها نصوص لا تستسلم لمجازات اللغة، بل تتجاوزها لفضاءات الفلسفة معتبرةً الوجود كائناً حياً يمتلك صوته في كلّ مكوّناته الحسية والمعنوية، لهذا نجد فاطمة تحاوره، وتسائله، وتغامر معه، وكأنها تقفز بحيادية بين مربعات الشطرنج دون أن تنتمي إلى لون ما.

وعن مجموعتها “قلب مائل للزرقة” تحدثنا إحسان قائلة “هي مجموعتي الشعرية الثانية بعد ‘سكّة مطر‘، محطةٌ أخرى في رحلة الكتابة التي أتوق إليها بقدر ما أخشاها، وأتشبث بها من حينٍ إلى آخر كفعل وجود أول وأخير. أتلمس في هذه المجموعة آثار محاولاتي الدؤوبة لمهادنة الحياة، والتناغم مع إيقاعها الصعب بحيلةٍ أو بأخرى، فأعثر في أثناء ذلك على خيوط جديدة تقودني إلى هويتي التي مازلتُ في طور اكتشافها”.

يشعر القارئ لنص فاطمة إحسان بأنه أمام صوت المرأة الشرقية بكل حمولاتها الثقافية والوجودية، وكأنها تتكلّم باسم قبيلة النساء في مجتمع لا يكترث بوجودها. غير أنها تدفع هذه القراءة بعيداً عن نصها وترى بأن على النص أن يتجاوز الهوية ليعانق التجربة وأسئلتها الخاصة.

لهذا فالنصّ الشعري كما تفهمه شاعرتنا “هو نصٌ بالغ الخصوصية، وإن كان يعبّر عن حالة عامّة أو شعور مشترك فذلك للكيفية التي يتقاطع بها مع تجربة كل فرد على حدة، وبصور خلاقة ومتعددة.

من جهة أخرى أرى أن اختزال التجربة الإنسانية للمرأة في جانب وحيد من هويتها؛ أي أنوثتها، يطمس جانباً كبيراً من قيمة تجربتها ككل لا سيما حين يتعلق الأمر بالفن والشعر. في مجموعتي ‘قلب مائل للزرقة‘ لم أسعَ لإقحام أي قضيةٍ لا تمسّ وجودي بشكل خاص، كان صوتي معبراً عن تجربتي الوجدانية بالدرجة الأولى، وكل ما رافق ذلك كان جزءاً من هذه التجربة”.
وفي هذا السياق ترفض فاطمة إحسان تصنيف الأدب إلى “أدب نسوي” و”أدب ذكوري”. ولا تفهم لماذا الإصرار على تصنيف التجارب الأدبية وفقاً للهوية الجنسية لصاحبها. تقول محدثتنا “في هذا التصنيف افتراض ضمني بتشابه تجارب النساء من جهة، واختلافها الجذري عن التجارب الأدبية للرجال من جهة أخرى، مع أنه لا يوجد تصنيف يدعى ‘الأدب الذكوري’ ربما لكونه حالة سائدة تحاكم بأدوات مختلفة. أرى أن النظر إلى التجارب الشعرية كتجارب إنسانية محضة سيؤدي إلى فهمها بصورة أعمق، إذ سيتم استقصاء دلالات أوسع في النص بعيداً عن الإسقاطات السطحية، كالقول بأن نصوص الكاتبات تنحو إلى الرومانسية والعاطفية أكثر من نصوص الكتّاب، على الرغم من أن أسماء الكتّاب الرجال في هذا اللون من الكتابة لا تقلّ عن أسماء الكاتبات، وقد تزيد عنها”.

في نص “قلب مائل للزرقة” نواجه الشاعرة الراغبة في الانفلات من قفصها ناحية أفق جديد من خلال تخلّصها من إرثها الذي يشكّل حملاً ثقيلاً على ذاكرتها الخاصة. تقول الشاعرة “الشمس ليست صفراء، وهذا الذي رسمته في السماء باللّون البني ليس سوى صرصور طائر: سأقولها لمعلمة الروضة، وأمضي إلى باقي عمري، حرةً مثل ريح تجهل المواسم”. هذا النص دفعنا إلى التوقف معها لنسألها عن رأيها في مدى قدرة الشعر على أن يخلّصنا من قيد الذاكرة/ التاريخ الثقيل.
الجيل الجديد

تقول إحسان “أعتقد أنني لا أتجاوز الأشياء بقدر ما أخبئها تحت جلدي لبعض الوقت، وهنا يأتي دور الكتابة، لتجرحني مجدداً أو لتسقط على الندوب القديمة لوناً جديداً من الإدراك والشعور، بالكتابة الشعرية أيضاً أتخفف مما لا يتاح لي التملّص منه في الواقع، أي من السائد والمفروض والمنطقي، لعل هذه هي الميزة التي تتفوق بها الكتابة على الحياة تحديداً، إلى جانب كونها تتيح لنا فرصة إنجاز عدد لا نهائي من المسودات، والمحاولات، بضريبة لا تقارن بالضرائب التي ندفعها عندما نخطئ في الواقع”.

وهذا ما تؤكده الشاعرة في نصها “قلب مائل للزرقة” حيث تلفت إلى أنها عادت فيه إلى الطفلة التي كانتها، الطفلة الناقمة الخجولة التي لم تعرف يوماً كيف تفسّر مواقفها المريبة من العالم والأشياء، واستعانت بكفها الصغيرة لترسم ملامح الصبيّة التي هي اليوم.

يرى بعض النقاد أن إشكالية النص الجديد هي غياب القضايا القومية والوطنية الكبيرة، واهتمامه بشكل مباشر بكل ما هو “مشخصن” ضمن تجربة الشاعر أو الشاعرة في حدودهما اليومية.

وترى ضيفتنا أن الكتابة عن الهواجس الذاتية لا تقل شأناً عن الكتابة التي تتمركز حول القضايا الوطنية أو القومية أو ما يدعى القضايا الكبرى، فهي تعتقد أن التجربة الذاتية بثقلها الوجودي والفكري والعاطفي هي أصدق وأهم ما يمكن التعبير عنه على الإطلاق، فضلا عن كونها تتقاطع مع القضايا الخارجية من زوايا حساسة بالنسبة إلى الشاعر على نحو مخصوص.

تقول إحسان “أعتقد أن وظيفة الأدب تتلخص في التنقيب عن الكسور والأجزاء الصغيرة التي تصنع الأثر والمعنى، وفي نحت اللغة وتحويرها لتصبح بديلة عن اللغة ذات النبرة العامة، العالية، الفجّة، التي تغفل أكثر تجاربنا عمقاً وحساسية، وفي التقاط الشعرية مما هو يومي ومعيش يتماهى مع هذا المطلب الإنساني من الأدب عامةً والشعر بشكل خاص”.

في ختام حوارنا تحدثنا مع ضيفتنا عن رؤيتها الخاصة للحركة الشعرية الجديدة (الشبابية) في عمان حيث ترى أن ثمة تباينا في التجارب الجديدة في الساحة الشعرية بعمان، وما زال السّجال المتعلق بمسألة ما إذا كانت قصيدة النثر تعدّ شعراً أم لا، مستمراً.

ويبدو لها أن ثقافة المسابقات الشعرية والجماعات الأدبية في الجامعات قد أفرزت هذه التحفظات من جهة، فكأنما صارت هنالك أشكال معينة للكتابة لا ينبغي الحياد عنها، من جهة أخرى أدى غياب النقد عن هذا النمط من الكتابة تحديداً إلى تراجعه عند بعض الكتاب الشباب الذين يفضلون أن يخطوا خطواتهم الأولى في ظل اعتراف من سبقوهم، بينما أدى إلى قولبة قصيدة النثر وتنميطها لدى آخرين للأسباب ذاتها، مع ذلك تؤكد إحسان أن ثمة تجارب خجولة تستحق الالتفات فعلاً، وتعوّل عليها شخصياً. أما فيما يخص التواصل مع الشعراء الشباب العرب، فتشير إلى أن هناك صداقة لطيفة تجمعها بأصحاب تجارب حديثة في عدد من الدول عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وتظن أن هذا الفضاء الافتراضي قد أتاح لنا فرصة مهمة للتعرف إلى تجاربهم عن قرب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى