بابلو لارين يعود إلى السياسة والشعر في ‘نيرودا’

أمير العمري

أخيرا يأتي فيلم “نيرودا” إلى دور السينما اللندنية ويشهد إقبالا كبيرا جعل الفيلم يحتل مكانا متقدما في قائمة الأفلام العشرة الأكثر جماهيرية رغم كونه أبعد ما يكون عن الأفلام الأميركية الشعبية التي تروي قصصا خرافية أسطورية.

“نيرودا” هو الفيلم الذي أخرجه المخرج الشيلي الشهير بابلو لارين (41 سنة) قبل أن يخرج فيلمه الأميركي الأول “جاكي”. ويتفق الفيلمان في كونهما يتناولان جانبا من حياة شخصيات حقيقية. وكان صيت لارين كمخرج مبدع يمتلك رؤية وأسلوبا خاصين، ذاع بعد فيلمه “لا” (2012) الذي يدور على أرضية الأحداث التي شهدتها شيلي عام 1988 عندما اضطر نظام الجنرال بينوشيه إلى القبول تحت الضغوط الدولية، لإجراء استفتاء عام حول بقائه في السلطة كرئيس للبلاد لثماني سنوات أخرى، أو إفساح المجال لرئيس جديد.

نتيجة الاستفتاء كانت معروفة سلفا لجمهور الفيلم، فعلى العكس من توقعات معسكر بينوشيه كان النصر حليف معسكر “لا”، وما أعقب ذلك من تخلي بينوشيه عن السلطة، إلا أن لارين ينجح بالتعاون مع كاتب السيناريو بيدرو بيرانو في نسج خيوط سيناريو جيد يبرز الصراع السياسي الذي كان دائرا في شيلي في تلك الفترة المضطربة مصورا أجواء المؤامرات التي تدور وراء الكواليس، مسلطا الأضواء على تاريخ نظام بينوشيه منذ الانقلاب العسكري الدموي عام 1973، لكن الفيلم ينجح رغم ذلك في الإبقاء على ترقب المشاهدين وانتظارهم في قلق ما سيسفر عنه الاستفتاء.
في قلب السياسة

الشخصية الرئيسية في فيلم “لا” هي شخصية مخرج أفلام دعائية كان يعيش في الخارج بعد فرار والده السياسي المعارض هربا من قمع نظام بينوشيه، وقد عاد مؤخرا إلى شيلي والتحق بالعمل في وكالة تجارية للإعلانات ينتمي مديرها إلى معسكر اليمين، فهو مؤيد صلب لبينوشيه بحكم مصالحه، بل وقد أصبح أيضا مستشارا لرئيس الحكومة.

أما رينيه الذي لا يبدي اهتماما واضحا بالسياسة فقد انفصل عن زوجته فيرونيكا وأصبح يعول طفله وحده لكنه مازال يحب فيرونيكا ويرغب في استعادتها، لكنها تختلف عنه فهي ناشطة في حركة المعارضة اليسارية وتشارك في المظاهرات وتتعرض للضرب والاعتقال.

بسبب سمعة والده كمناضل قديم يستعين ائتلاف المعارضة الديمقراطية الذي يضم أحزاب اليسار والمسيحيين الديمقراطيين وغيرهم برينيه لعمل سلسلة أفلام دعائية تدعو الناخبين إلى التصويت بـ”لا” في استفتاء الخامس من أكتوبر 1988. فقد اتفق على أن من حق كل طرف بث مادته الدعائية المصورة لمدة 15 دقيقة يوميا على شاشة التلفزيون الحكومي.
رينيه المتردد بين الولاء لمصالحه في معسكر اليمين يحسم تردده أخيرا بعد أن يرى بعينيه كيف يقمع نظام بينوشيه معارضيه بقسوة شديدة رغم ادعائه بالانفتاح الديمقراطي وقبوله بإجراء الاستفتاء، وبعد أن تتعرض فيرونيكا للاعتقال والضرب يصبح رينيه على قناعة بضرورة إحداث التغيير في شيلي. وهو يستخدم أسلوبا فنيا في صنع الأفلام الدعائية السياسية بشبه كثيرا الأسلوب المستخدم في إعلانات الكوكاكولا وغيرها من السلع الاستهلاكية مما يغضب زعماء الحملة الديمقراطية في البداية إلا أنه ينجح تدريجيا في اكتساب ثقتهم بعد أن يروا التأثير الإيجابي لهذا الأسلوب في الدعاية على المشاهدين.

يصور الفيلم عصر التلفزيون ويبرز تأثيره على “اللعبة السياسية” ويجسد كيف ينجح الإصرار على الوصول للناس بأشكال بسيطة من خلال نغمة التفاؤل بالمستقبل الذي ينتظر البلاد بعد سقوط الدكتاتورية. ورغم الرسالة السياسية الواضحة للفيلم إلا أن لارين يميل للبناء المركب فيمزج بين التسجيلي والدرامي الروائي، كما يربط بين فكرة خلاص شيلي من الدكتاتورية والخلاص الشخصي لبطله “رينيه” وخروجه من حياة التشتت والضياع أملا في استعادة زوجته واستئناف حياة جديدة في مجتمع جديد.
شخصية مترددة

في شخصية رينيه بعض الملامح الهاملتية التي تتضح في تردده وتشككه في ما يقوم به وفي انفصاله عمّن يقفون حوله من أصحاب القضية السياسية، فهو يختلف عنه كونه بعيدا عن الانتماء السياسي الحزبي كما أنه الغريب القادم من الخارج، الذي يكتشف تدريجيا كيف أصبحت شيلي في غيابه. رينيه هو المستفيد من النظام، لكنه يواجه أسئلة عديدة هي “هل يواصل العمل والاستفادة في ظل النظام القائم رغم كل ما يراه من مظاهر القمع؟ وهل هذا هو المناخ الذي يرغب أن يرى ابنه ينشأ في ظله؟ أم يحسم تردده ويقبل بالانتماء إلى حركة الجموع؟

يستخدم لارين الكثير من المشاهد التسجيلية لبينوشيه في مناسبات مختلفة ومقاطع من البرامج والمواد التلفزيونية التي كانت تبث في شيلي، كما يعيد تجسيد مشاهد الحملات الدعائية الهائلة التي تمتلئ بالآلاف من الأشخاص، وينجح في تحريك المجاميع وينتقل ببراعة من الفردي إلى الجماعي ومن الخاص إلى العام، ويركز على قدرة الأشرطة التي تحمل طابعا إنسانيا بسيطا لا يخلو من المتعة في التأثير على الجمهور العام، ورغم كثرة الشخصيات الثانوية إلا أن الفيلم يظل متماسكا مشدودا حول بطله الرئيسي وعلاقته بما يحدث من حوله.

يتميز الفيلم أيضا بإيقاعه السريع اللاهث الذي يرفع وتيرة التوتر والقلق لدى المشاهدين دون أن يبعدهم عن التطلع بموضوعية لما يرونه أمامهم. ويحرص لارين على استخدام الألوان التي تعكس أجواء الثمانينات من القرن العشرين وكذلك أزياء الفترة، كما يضفي على الصورة طابع تلك الفترة مع انتشار الحبيبات والإضاءة القاتمة في محاولة لتجسيد طابع ما قبل الطفرة الرقمية في تكنولوجيا الصورة.

ولعل أبرز معالم فيلم “لا” هو ذلك الأداء المعبر الواثق من جانب الممثل الشاب غايل غارثيا برنال الذي يقوم بالدور الرئيسي ببراعة كبيرة ليثبت أنه أحد أفضل الممثلين في سينما أميركا اللاتينية.

الفيلم التالي “النادي” للمخرج لارين هو الذي جعل اسمه مرموقا في أروقة المهرجانات السينمائية العالمية بعد فوزه بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 2015. و”النادي” اسم مجازي يطلق على منزل تابع للكنيسة الكاثوليكية، يقع على شاطئ البحر في بلدة مجهولة في شيلي، يقيم فيه ستة قساوسة (معهم راهبة) محكوم عليهم بالبقاء في هذا “المنفى”، ومحظور عليهم الاختلاط بأهل البلدة بسبب اتهامات لهم بممارسة اعتداءات جنسية على الأطفال.

وترسل الكنيسة قسيسا آخر شابا للتحقيق معهم. ومن خلال المواجهات المتقطعة والمجزأة على مدار الفيلم نطلع على جوانب أخرى في شخصيات الرجال، ولكن دون أن يتمكن المحقق الشاب قط من التوصل إلى الحقيقة، أي حقيقة ما حدث وتحديد المسؤولية والثمن الذي يتعين دفعه، وهل يقع اللوم على الكنيسة أم على الأفراد الذين ارتكبوا جرائمهم؟ وهل نحن أمام أزمة أخلاقية أم أزمة مؤسسة؟

أما فيلم “نيرودا” فهو أقرب إلى فيلم “لا”، وهو مثله يدور على أرضية سياسية، كما يبرز-على نحو ما- الموقف الجمالي للفنان الذي يفضّل أن يترك مسافة بينه وبين الشخصية التي يصوّرها، ما يسمح له بتأملها في سياق فني تخيلي مبتعدا عن الصورة المعهودة للبطل-الفردي الإيجابي الرومانسي الأسطوري الثوري.

وكما كان “رينيه” في فيلم “لا” مترددا متشككا فيما يفعله، يظهر بابلو نيرودا في الفيلم الجديد -ليس باعتباره ذلك الشاعر الرومانسي الثوري العملاق الذي ينكر ذاته وينحاز لصفوف الفقراء- بل كرجل من لحم ودم يحب ويكره، يشعر بتضخم الذات ولا ينكرها، يكتب الشعر الذي يثير خيال البسطاء من الناس ويدعو لتحقيق العدل الإنساني، لكنه يغشى أيضا أماكن اللهو والمتعة الحسية، فهو يهرب من خشونة “الالتزام” إلى المواخير والحانات، لكنّه يفتن النساء ليس بفحولته بل بأشعاره البديعة الخلابة.

تدور أحداث “نيرودا” في عام 1948 ويدور المشهد الأول تحديدا داخل دورة للمياه في مبنى البرلمان حيث كان نيرودا قد أصبح نائبا عن الحزب الشيوعي، وقد اتضح مبكرا خلافه مع “فيديلا” الذي كان رئيسا للحزب الراديكالي لكنه تغير بعد أن أصبح رئيسا لشيلي وانحاز في سياساته لليمين، ثم حظر نشاط الحزب الشيوعي وغيره من أحزاب اليسار، وشن حملة اعتقالات كبيرة وحملة خاصة لتعقّب نيرودا وتشويه سمعته.

وقد وجد نيرودا نفسه مضطرا إلى الفرار إلى الريف وظل ينتقل من مكان إلى آخر هربا من الاعتقال. وهذه الفترة هي التي تدور فيها أحداث الفيلم. في النصف الأول نتابع حياة البذخ في منزل نيرودا الفسيح وعلاقته بزوجته الثانية الأرجنتينية “ديلي أديل كاريل” التي تزوجها أثناء وجوده كقنصل عام في المكسيك، وكانت تحبه كثيرا ويبادلها الحب غير أنه كان يميل أيضا إلى الخروج في مغامرات عابثة بعد أن أصبح رمزا مرموقا في شيلي، ثم نشاهد ميله للتمرد على الرفيق الحزبي المكلف بدفعه للانضباط الحزبي.
المطاردة

إنه الشاعر الذي قال ذات مرة إن الشرطة لن تجد شيئا وراءه سوى أشعاره. ويبتكر السيناريو البارع الذي كتبه غليرمو كالديرون شخصية خيالية هي شخصية ضابط الشرطة “أوسكار بيلوشونوه” (يقوم بالدور ببراعته المعهودة غايل غارثيا برنال بطل فيلم “لا”). ومن ناحية الملامح الشكلية الخارجية يبدو بيلوشونوه على النقيض من نيرودا، فبينما يتمتع الشاعر ببنيان ضخم مترهل، يبدو الضابط قصيرا نحيفا ذا شارب نحيل كما لو كان إحدى الشخصيات الهاربة من أفلام هوليوود البوليسية في أربعينات القرن الماضي.

وللمزيد من التلاعب بالحبكة وهجر النهج المستقر لأفلام السيرة الشخصية، نرى بيلوشونوه يروي الأحداث بصوته من خارج الصورة بطريقته الخاصة وبوحي من خياله الشخصي ويتلاعب بها كما يحلو له، وبالتالي فنحن لا يمكن أن نكون أمام فيلم “واقعي” يروي موضوعيا جانبا من حياة نيرودا، فلارين يحلق فوق الواقع ويخلق خياله الخاص عن الشخصية ويقول لنا بوضوح إنّ ما نراه محض خيال، فشخصية الضابط تبدو من خارج الواقع رغم عدم انسلاخها التام عنه، فلا بد أنه كان هناك من تم تكليفه بتعقب نيرودا واعتقاله، لكن بيلونوشوه يصبح في النصف الثاني من الفيلم شخصية من وحي خيال نيرودا نفسه أي من اختراعه.
وعندما يلتقي الضابط زوجة نيرودا بعد أن يكون نيرودا قد نجح في الفرار كالعادة، تقول له إن نيرودا هو الذي اخترعه، وإنه لن يتمكن من القبض عليه أبدا، وسيظل دائما شخصية ثانوية. لكنه يرفض دوره الصغير ويسعى لأن يثبت أنه الشخصية الرئيسية في الأحداث. إنه ينقب في ماضيه كطفل غير شرعي لضابط شرطة وعاهرة مجهولة، وفي أثناء تعقبه لنيرودا يبدأ تدريجيا في الإعجاب بالشاعر الكبير وأشعاره.

في الفيلم الكثير من أشعار نيرودا بالطبع، إنه يأسر بشعره ممثلا مثليا في أحد الكباريهات التي يتردد عليها فيصر الرجل على أن يسمعه نيرودا قصيدة من قصائده الشهيرة. وعندما يتمرد نيرودا على عزلته ويصر على الخروج للشارع تقابله فتاة متسولة تطلب أن يمنحها شيئا فيقول لها إنه ليس لديه سوى الشعر ويمنحها نسخة من ديوانه ثم يحتضنها. وبدلا من أن يترك للضابط الذي يطارده أشعاره، فهو يترك له وراءه نسخة من رواية بوليسية جديدة في كل مرة!

في القسم الثاني يبدو الفيلم أقرب إلى أفلام الطريق مع بعض الحيل السينمائية المكشوفة عمدا إمعانا في تأكيد الجانب الخيالي كما نرى عندما يركب نيرودا سيارة تسير به بينما تتراءى بشكل مكشوف صور الشوارع والخلفية من خلال وسيلة “العرض الخلفي” القديمة. وفي المطاردة الأخيرة في جبال الإنديز المغطاة بالثلوج يستخدم نيرودا ورفاقه الجياد، ويطارده الضابط على صهوة جواد أيضا (لا يتمكن من امتطائه إلا بصعوبة بالغة) كما لو كنا نشاهد فيلما من أفلام رعاة البقر.

من الناحية البصرية يتميز الفيلم عموما بالتصوير البديع سواء في المشاهد الداخلية التي تدور داخل منزل نيرودا بمكتبته العامرة بالكتب والذي يشي بما يتمتع به من مكانة، أو داخل المنازل التي يلجأ إليها كما في المشاهد الخارجية في ربوع شيلي، وخاصة ذلك المشهد الذي يقرأ فيه شعره على جمع من البسطاء في ساحة عامة، وكيف يتم إرسال أشعاره إلى الآلاف من الأشخاص من خلال صناديق البريد مثل توزيع المنشورات، وقد كان لها بالفعل مفعول السحر. والفيلم في النهاية يحقق أساسا متعة السينما، وهي دون شك أهم من أيّ رسالة سياسية.

“نيرودا” مغامرة لا شك فيها سواء في المضمون الذي لا يلتزم بالصورة التقليدية المستقرة مسبقا في أذهان الجمهور عن الشاعر الشيلي الكبير، أو في طريقة القص والسرد والتصوير. ولا شك أن “النادي” من أفضل أفلام المخرج.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى