فيلم «كائن لا تحتمل خفته» لفيليب كاوفمان: حين تصبح الخفة قيداً

 

نسرين علام

«الحياة خفيفة للغاية. إنها كخط رفيع لا يمكن أن نملأه أو نصححه أو نحسنه»،
هكذا يقول توماش (دانيال داي لويس)، إحدى الشخصيات المحورية الثلاث في فيلم «كائن لا تحتمل خفته» «The Unbearable Lightness of Being» لفيليب كاوفمان.
أيمكن للخفة أن تكون ثقيلة؟ وهل يمكن للتجرد من التعلق بشخص أو بشيء أو بمبدأ أن يكون أمرا يثقل الكاهل ويجهد النفس؟ هذا هو السؤال الذي يراودني، كلما شاهدت ذلك الفيلم الذي دوما ما يحملني إلى عالم من التساؤلات الوجودية.
توماش جراح مخ شاب ووسيم في براغ، عاصمة تشيكوسلوفاكيا، والزمن هو ستينيات القرن العشرين، ذلك الوقت الذي كانت فيه براغ مسرحا للتدخل السوفييتي السافر في شؤونها. لعل الكلمتين «لا تحتمل» هما أهم ما في العنوان، وفيهما تكمن رؤيتي للفيلم ولشخصية توماش.
يعيش توماش حياته بخفة، أو فلنقل في تعمد للخفة. يتخذ من الخفة ومن الابتعاد عما يثقله بالفكر أو الارتباط مذهبا حياتيا. يمارس الجنس بغزارة، لكنه جنس لا يزيد عن أن يكون رياضة سريرية، جنس لا يرتبط بالقلب ولا ينم عن مشاعر حب. عالم الجنس الذي يمارسه توماش هو عالم حسي جسدي فقط، عالم قرر ألا تنشأ عنه حميمية أو ارتباط أو حب. ممارسة ينسحب بعدها إلى عالمه الخاص بمعزل عما يجري في العالم. شريكة الجنس المتكررة لتوماش هي سابينا (لينا أولن) وهي فنانة تشكيلية ذات حسية فائقة وشخصية قوية، وهي تعتنق مبدأ الخفة ذاته الذي يتبعه توماش، ولكن بصورة أكثر صرامة وأكثر اقتناعا. في أحد مشاهد الفيلم تقولها صراحة «أحاول دوما ألا أرتبط بالأماكن أو الأشياء أو الأشخاص»، وتؤكد «أحب أن أغادر… أن أغادر الأماكن». هي، كتوماش، في حالة فرار دائم مما يثقل، وفي سعي دائم عن الخفة.
ارتباطهما حسي جنسي بحت، ارتباط لا يوجد فيه حب أو غيرة أو ألم أو مطالبة بالبقاء.تتمهل الكاميرا كثيرا على الجسدين الفتيين في ممارستهما الجنسية، ولكننا لا نرى مشهدا حميميا. هناك تجرد من المشاعر يصلنا كمتلقين. وهناك دوما المرآة: كما لو كان طقسا يشتركان فيه، دوما تضع سابينا مرآة كبيرة قرب الفراش يمكن لها ولتوماش أن يشاهدا انعكاسهما فيها وهما يمارسان الجنس، فيصبح الأمر كما نراه مجردا من الشعور بصورة أكبر: كما لو كانا يشاهدان فيلما جنسيا هما بطلاه. ثم تأتي تلك الأخرى تلك التي هي النقيض التام للخفة. إنها تريزا (جولييت بينوش) التي يلتقيها توماش صدفة، ويجد نفسه يقتفي أثرها منجذبا إليها: إلى وجهها الحزين البريء، إلى صوتها الصغير الرقيق، إلى حركاتها غير المتكلفة وحديثها غير المتكلف. وفجأة، ودون تخطيط منه، يجد توماش تريزا تقف ببابه تطلب البقاء، فيسمح لها بالبقاء. أتراه قد تعب من الخفة التي يعتنقها؟ أتراه دون وعي وسابق تخطيط منه بدأ يحب تريزا، تلك التي تختلف عنه كلية، تلك التي تسعى للبقاء والاستمرار والارتباط، تلك التي لا يعرف إدراكها الخفة والتجرد اللذين يعيش بهما ولهما توماش؟
نحسب أن التركيز الرئيسي للفيلم ينصب على هذا الخلاف الكبير في الفلسفة الحياتية: ذلك الصراع بين رغبة توماش في الخفة وفي التجرد مما يثقل الكاهل وبين
عدم قدرة تريزا على فهم هذه الفلسفة أو التعايش معها، رغم حبها الشديد لتوماش.
تريزا ترى أن لكل شيء عواقب وتبعات وأن كل الارتباطات يجب أن يكون لها وزنها، وأن الأفعال يجب أن يكون لها ثقلها. تؤمن أن الجسد يُمنح لمن تحب، وأن الجسد لا ينفصل عن المشاعر والقلب. تؤمن بأنها، على ضعفها، جزء من ذلك الوطن الذي يحاول توماش أن يترفع عن قضاياه السياسية ويفر منها. تؤمن بأن أقل ما يمكنها عمله هو أن تحمل سلاحها البسيط والشيء الوحيد الذي تجيد استخدامه، الكاميرا، لتوثق اجتياح السوفييت لمدينتها براغ، ولتوثق محاولات الشباب العزل الوقوف في وجه الآلة الحربية السوفييتية.
في حياتهما كزوجين وحبيبين يحاول توماش دوما الفكاك من ثقل العلاقة مع تريزا بعلاقات جسدية صغيرة يحاول بها مواصلة مبدأ الخفة الذي انتهجه لحياته، ولكن بالنسبة لتريزا هذه الخفة والعلاقات العابرة خيانات دائمة، خيانات تقض مضجعها وتصيبها بألم نفسي شديد وتؤلم روحها.
كان يمكن للفيلم، المقتبس عن رواية ميلان كونديرا بالاسم نفسه، الذي كتب له السيناريو بإحكام شديد جان كلود كاريير بالاشتراك مع فيليب كاوفمان، أن يسقط في فخ السينتمالية والميلودراما في تصوير العلاقة بين تريزا وتوماش، ولكن الفيلم يتجنب ذلك ببراعة. نحن بصدد اثنين يحبان بعضهما بطريقتين مختلفتين كلية ولهما رؤيتان مختلفتان تماما للعالم. توماش يحب تريزا ويرتبط بها زواجا، بينما يرفض عقله فكرة الحب والارتباط، لأنهما يعنيان انتهاء الخفة. تريزا، من جانبها، تسعى إلى النقيض التام. يحاول كل منهما أن يفسر العالم من حوله بأسلوبه وطريقته، ورغم الاختلاف التام في الرأي والرؤية يحاولان إنجاح علاقتهما واستمرارها. لا تنفصل قصة توماش وتريزا عما يجري على أرض البلد الذي يشكل الصراع السياسي والفكري فيه خلفية الفيلم. إنه وقت اضطهاد المثقفين والمفكرين المعادين للتدخل
العسكري والسياسي الروسي في تشيكوسلوفاكيا. يحاول توماش كعادته أن ينأى بنفسه عن كل ما يثقل حياته. عندما تشتد وطأة التدخل السوفييتي، يكون قراره أن يحمل حقائبه ويحمل تريزا ويغادر إلى سويسرا.
تريزا، في المقابل، ترى في هذا الفرار ألما شديدا. تحاول التأقلم مع العيش في الخارج، ولكنها تقرر العودة إلى براغ، فهي ترى براغ «مدينة للضعفاء»، فتقرر
العودة لتلوذ ببراغ وتحتمي فيها من إحساسها بالوحشة في الخارج. دوما تبحث تريزا عن وطن: عن رجل تحبه بصدق، عن مدينة ترتبط بها وبتاريخها، عن كلب صغير اسمه «كارينين» هو ما تقرر أن تصحبه معها إلى براغ مجددا. تريزا هي النقيض التام لسابينا، تلك التي اتخذت من السفر وطنا والتي عندما قابلت فرانز، ذلك الرجل
الذي أحبها بصدق وأحبته بصدق، قررت الهرب إلى أقاصي الأرض للفرار منه وللاحتفاظ بخفتها.
نرى دوما توماش الساعي إلى الخفة قولا وعقلا، يفر من الخفة قلبا ليسير خلف
تريزا، التي على ضعفها وعلى رؤيتها المختلفة تماما للعالم، جعلته بحبها أقرب
لرؤيتها هي للعالم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى