ضمن عروض في معهد جوته في القاهرة: الفيلم الكردي «منزل بلا سقف»: اغتراب دائم ينتفي بمواجهة الحقائق

محمد عبد الرحيم

أن تحيا على تاريخ زائف، وأن تستمد قيمة وجودك من خلال هذا التاريخ، وحتى عندما تواجه الحقيقة فهل تستطيع الفكاك منه؟ العديد من الأسئلة يحاول الفيلم الكردي الألماني «منزل بلا سقف» طرحها، في شكل فني يليق بعمل سينمائي، دون أي دعائية أو أقوال مباشرة وفجة، كما العديد من الأعمال التي تنتمي بالخطأ إلى فن السينما.
من ناحية أخرى تبدو قضية الوجود الإنساني هي الأهم، رغم المشكلات السياسية والإرباكات التي لا توصل إلى أحكام يقينية، سواء على مستوى العلاقات بين الشخصيات، أو الأحداث، قيمة النسبية في المواقف والآراء، دون الانتصار لإحداها، تعطي للفيلم بُعداً أكثر وعياً على صعيد الأفكار التي يناقشها، والتي لا تنحصر في قضية فئة معينة أو فصيل عرقي أو مجتمع صغير، فالأمر يتصل بالذات أكثر منه قضية اجتماعية كبرى، رغم تماسه بالعديد من المعضلات التي يعانيها العالم الآن.
عُرض الفيلم ضمن الأسبوع السنوي للأفلام الذي يقيمه معهد جوته، والمقام في القاهرة هذه الأيام. الفيلم أداء، فريد سيفن، سوسن سايان، مينا صادق، ووداد صبري. سيناريو وإخراج سولين يوسف، إنتاج ألمانيا، كردستان، قطر 2016، 117 دقيقة. حصل على عدة جوائز، منها جائزة لجنة التحكيم من مهرجان مونتريال، وجائزة السينما الجديدة من مهرجان ميونيخ، إضافة إلى جائزة الجمهور في مهرجان دهوك السينمائي الدولي.

البحث عن التاريخ المفقود

أم وثلاثة أبناء من أكراد العراق، يهربون من جحيم نظام صدام حسين إلى العيش في ألمانيا، تاركين ذويهم، خاصة أسرة الأم، ولم يبق للمرأة وأولادها إلا رفات الأب في الوطن، وبسقوط النظام العراقي، تقيم المرأة احتفالا بين الأصدقاء، وتخبرهم بأنها وأولادها عليهم العودة إلى الوطن. ورغم تفاوت رد فعل أولادها على قرارها هذا، الابن الأكبر والابنة الصغرى يرفضان العودة، بينما الابن الأوسط يبدو أنه يقتنع بحديث أمه، وهو المستقر نفسياً كما يبدو للوهلة الأولى. ومن البداية تثور الأسئلة حول العودة وجدواها.. فإذا كانت كردستان العراق هي الجنة كما تتصورها الأم، فلماذا هربت الأسرة منها، ولماذا لم تحدث رحلة العودة بعد سقوط النظام مباشرة، ولما يتغيّر الأمر بعد إعدام صدام حسين وسقوط تمثاله الشهير، والعالم يشهده أمام شاشات التلفزيون، ورغم الحياة في ألمانيا والشكل الظاهري لاستقرار هذه الأسرة، إلا أن الجميع يعيشون حالة ضياع، الابنة عازفة الموسيقى، والابن الأكبر الذي لا يجد عملاً، ويعيش كيفما اتفق، كان أمل الأم في العودة هو المحاولة للملمة هذا الشتات، خاصة أن الأخوة في حالة من الانفصال الروحي والبؤس الذي لا يخفى. تموت الأم وتترك وصيتها، بأن تدفن بجوار زوجها، لذا كان على الجميع الآن ــ رغماً عنهم ــ اتخاذ قرار العودة الاضطراري هذا، لتبدأ رحلة البحث عن قبر الأب أو التاريخ المفقود.

رحلة نعش

الأبناء الثلاثة يحملون نعش أمهم، بعدما ينجحون في تهريبه من بيت خالهم، الذي يصر على دفن شقيقته في مقابر الأسرة، ويرفض تماماً أن تدفن بجوار زوجها، سبب البلاء كما يصفه دائماً. الرحلة هنا تبدو رحلة هرب من سلطة الرجل ومن ذواتهم، وحالة العزلة في ما بينهم، وطوال الطريق نصادف شخصيات أخرى متباينة تعاني عزلتها، سائق تاكسي يحمل رؤية كوميدية لما يعيشه، ومراقب حدودي يعيش مأساة فقد شقيقته، ويقع كل منهما في حب عازفة الموسيقى، وما بين أغنيات سائق التاكسي الحديثة، وأغنيات قديمة يعيش من خلالها مراقب الحدود، تتولد بين الثلاثة لغة جديدة، يفهمونها ويتحدثون من خلالها أكثر من الحديث بالكلمات. وبينما يظل الابن الأكبر يرتدي سترة والده الراحل، وكأنها سترة مقدسة ــ سترة عسكرية ــ حاملاً تاريخه النضالي في وجه النظام السابق. جميعهم في حالة يأس، يعيشون أوهامهم ويبدون أقوياء في وجه قسوة خالهم، فهم يؤمنون بالتاريخ، ويؤمنون بحكايات أمهم. ليصبح هذا النعش أشبه باعتقادات زائفة، حان الوقت للكف عن التعايش معها، ولابد من مجاوزتها والبداية من جديد. لم تكن وصية المرأة إذن إلا إطارا للحكاية، حتى يصل كل منهم إلى التصالح مع الآخر، ومع نفسه بالأساس.

وهم الاطمئنان إلى المطلق

ومن الانتصار للتاريخ كيفما نتلقاه وتتواتر حكايته فنقدسه، وصولاً إلى محاولة تجاوزه، رغم قسوة الحقيقة واكتشافها، فالأب لم يكن مناضلاً، بل كان عميلاً للنظام العراقي البائد، وما رحيل المرأة وأولادها إلا هرب من العار الذي لحق بهذه الأسرة، وما القبر البعيد والوحيد إلا قبر منبوذ لرجل ضال، ليبدو أنه قدر هذه العائلة عليها أن تحياه. هنا تصبح الأشياء نسبية فلا مكان لمطلقات، وبالتالي هناك فرصة للتصالح مع الآخرين، حالة قبول لم تتواجد طوال أحداث الرحلة بين الأخوة الثلاثة. عدم الاستكانة والاطئنان إلى الوجود لم تعد ممكنة، ليتماس هنا الذاتي مع السياسي، هناك حالة من الاطمئنان لدى الجميع بأنهم في مأمن من «داعش»، فهي بعيدة عن هذا العالم، ولا يؤمنون إلا باقتراب «داعش» واحتلالها أجزاء كبيرة من العراق، حتى أنهم يستغربون، فللمرة الأولى يهاجر العراقيون إلى كردستان.

الرؤية والأسلوب

إلى حدٍ كبير تجاوزت المخرجة وكاتبة السيناريو سولين يوسف ــ الألمانية كردية الأصل ــ تقليدية هذا الشكل من الأفلام، فلم تكن حالة التأسي للاغتراب هي النغمة الأعلى، كذلك لم يبدو الاستغراق في تفاصيل تراثية ومأثورات هذا الشعب هي الشاغل، أو كما يحدث في الكثير من الأفلام التي تدور حول حالات العودة إلى الأصول. ويبدو التوافق ما بين الرؤية الجمالية والفنية والأسلوب السينمائي، أماكن خانقة وكادرات ضيقة في أغلبها عند تصوير الأحداث القليلة في ألمانيا، ليبدو استعراض الطبيعة في كردستان في لقطات واسعة، حيث الجبال والمنحدرات والمساحات الخضراء. حالة التناغم هذه بين البشر والطبيعة والحيوانات ــ قطيع الخراف ــ وكذلك الأموات، المشهد الأخير حيث الفتاة ترقد بين قبري والديها، وشقيقاها على مبعدة منها، وقطيع الأغنام يلهو على هواه. صورة رومانتيكية تحمل حِس المكان ومخلوقاته.
من ناحية أخرى نجد فكرة التقابل الدائمة ما بين الظاهر والخفي من خلال الشخصيات.. الخال، الأقارب، عامل محطة البنزين، سائق التاكسي، مراقب الحدود، حتى راعي الغنم العجوز، فهناك قسوة أو لامبالاة أو حالة عنف تبدو على الجميع، بل وتتحكم في سلوكهم وردود أفعالهم، لكن هذه المظاهر تتبدد شيئاً فشيئاً مع الأحداث، مجرد غطاء لإحساسهم الهش وأرواحهم القلقة والمُهددة على الدوام.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى