ظاهرة مارلين مونرو… قوة الرمز تقاوم الزمن

زيد خلدون جميل

تعتبر شخصية مارلين مونرو من أبرز علامات الثقافة الأمريكية الحديثة وجزءا من التاريخ الأمريكي، وأكثر الشخصيات السينمائية التي يركز عليها الإعلام بمختلف أنواعه، فعدد الكتب والمقالات والأفلام السينمائية عنها وصل إلى المئات، ووصل الأمر إلى الأغاني أيضا، فأغنية «Candle in the Wind» الشهيرة للمغني البريطاني التون جون كانت عنها.
وتحولت شخصية مارلين إلى نشاط اقتصادي متنوع أيضا، بسبب كل ما نشر عنها ومصدرا للأموال لكثيرين، بل إن اسمها تحول إلى ماركة مسجلة يستلم ورثتها سنويا خمسة ملايين دولار مقابل السماح لظهور اسمها أو صورتها في دعاية أو فيلم، على الرغم من أنها توفيت قبل خمسة وخمسين عاما. ومع ذلك فإننا هنا لسنا بصدد ما يقوله الإعلام عن مارلين مونرو، بل دراسة تاريخ وشخصية هذه المرأة نفسها، لأن ما يقوله الإعلام هو نتيجة حملة إعلامية مدروسة بعناية خاصة، وهو ليس سوى غطاء لحقيقة مختلفة جذريا. ووصف مارلين بالشقراء البلهاء كان ادعاء إعلاميا استخدم دعاية لها ولأفلامها، وليس ضدها كما يعتقد البعض، لأنها في الواقع لم تكن أبدا بلهاء في حقيقتها أو في أي من أفلامها، بل المرأة الخبيثة والساخرة التي تفعل ما تشاء ضاربة عرض الحائط مشاعر الآخرين، بل إنها مستعدة أن تسحقهم بلا رحمة.
ففي فيلم «غابة الأسفلت Asphalt Jungle» مع لويس كالهرن مثلت دور عشيقة زعيم كبير في عالم الإجرام، كان قد وعدها برحلة ترفيهية، ولكن عندما ألقي القبض عليه نظرت إليه والشرطة تكبل يديه وسألته عن رحلتها التي كان قد وعدها بها، غير آبهة بمشاعره في تلك اللحظة. وفي فيلم «O.Henry’s Full House» استطاعت أن تكون من علامات الفيلم الفارقة، وبدا فيه النجم البريطاني تشارلز لوتن قزما أمامها. أما في فيلم «شلالات نياغارا» مع جوزف كوتن فإنها تشبع زوجها احتقارا، وتقنع عشيقها الذي أعماه إغراءها بقتل زوجها المسكين. أما في «البعض يفضلونها ساخنة» مع العملاقين توني كيرتس وجاك ليمون، فقد كانت السبب الحقيقي لعنصر الفكاهة الذي ميز الفيلم، حتى أنه اعتبر أشهر فيلم فكاهي في تاريخ السينما الأمريكية.
كل هذا يدل على براعة مارلين كممثلة لأدوار معقدة ولكنها تنجح في جعل المشاهد يتقبل كل ما تقدمه ببساطة بالغة. ولم يكن سبب نجاحها هو جمالها فقط، بل لأنها أوحت للجميع بأنها رائعة الجمال بسبب وجهها المعبر الذي يمزج الخبث القاسي بسخرية غريبة بطريقة غامضة تجذب انتباه المشاهد، وجعلها هذا قادرة على الطغيان على كل من يظهر معها في أي مشهد سينمائي. والغريب في الأمر أنها لم تظهر إلا نادرا في شكلها الطبيعي وشخصيتها الحقيقية أمام الملأ، فعندما كانت تظهر في المقابلات والأخبار والأفلام الوثائقية، كانت في الحقيقة تمثل وكانت تسيطر هي بنفسها على مظهرها في الإعلام، وحتى ما يقال عن علاقتها الجنسية بالرئيس الأمريكي كندي المشكوك بها، فقد تكون من اختلاقها، وحتى إن حدثت مثل تلك العلاقة، ولا يوجد دليل يدعم هذه الفرضية، فقد بالغ الإعلام في أهميتها. وكانت مارلين مقربة من أشهر كتاب الإشاعات وأخبار النجوم في الصحف، وكانت تستطيع عن طريقهم اختلاق أي إشاعة، فهي لم تفوت أي فرصة للظهور أمام الجمهور والمصورين، فمثلا عندما كانت تقضي شهر العسل مع زوجها الثاني في اليابان، أثناء الحرب الكورية، إذا بها تتركه في الفندق، على الرغم من اعتراضه، لتقدم عرضا حيا أمام الجنود الأمريكان في كوريا، ما أثار إعصارا إعلاميا لتحتل صورها الصفحات الأولى لأشهر الصحف الأمريكية. وحتى زواجاتها كانت من أجل مصلحتها فحسب، فزواجها الأول كان للتخلص من سيطرة السلطات التي كانت من الناحية القانونية وصية عليها، لأنها كانت قاصرا آنذاك، ولم يكن هناك من يرعاها. وزواجها الثاني من جوديماجيو، كان خير دعاية لها، لأنه كان الشخصية الرياضية الأولى في الولايات المتحدة. وأما زواجها الثالث فقد كان من الكاتب آرثر ميلر الذي كان يعد أعظم كاتب ومثقف أمريكي في تلك الأيام. وكانت مارلين المستفيدة الحقيقية من هذه الزواجات ولم تراع أبدا مشاعر أزواجها، ومن يرى مارلين في تلك اللقطات النادرة التي كانت فيها على سجيتها، فإنه سيلاحظ وجهها القاسي ونظرتها الثاقبة.
ولدت مارلين مونرو في الأول من حزيران/ يونيو1926 في مدينة لوس أنجليس الأمريكية تحت اسم «نورماجين مورتنسن» لأم فقيرة وأب مجهول، وقضت والدتها جزءا كبيرا من حياتها في مستشفيات الأمراض العقلية، ويقال إن والديّ الأم نفسها كانا لفترة ما في هذه المستشفيات. وبسبب عدم استطاعة الوالدة الاعتناء بمارلين، فقد انتقلت الابنة بين عدة عوائل، ثم إلى دار للأيتام، حيث أصبحت تحت رعاية السلطات، وتزوجت مارلين عندما كانت في السادسة عشرة من شاب في الحادية والعشرين من عمره، تركها بسبب الحرب العالمية الثانية، ليعمل على سفينة، بينما عملت هي عاملة بسيطة في مصنع للذخيرة، وهناك شاهدها مصور لإعلانات الجيش الأمريكي وعرض عليها العمل «موديل» لديه، وهنا بدأ نجم مارلين مونرو بالصعود، حيث تركت زوجها ومنزلها غير آبهة باحتجاجه، ودخلت عالم الأضواء لتعمل «موديل» وغيرت اسمها ليكون مارلين مونرو، وأخذ مظهرها يتغير حيث أصبح شعرها ناعما وأشقر، بعد أن كان جعدا وبنيا، وكانت جدية جدا في العمل، وأصبحت «موديل» ناجحة جدا. وبعد ذلك أخذت دروسا في التمثيل والرقص، ودخلت عالم السينما في أدوار صغيرة، وأخذت تراقب الممثلين في عملهم لرغبتها الملحة في أن تتعلم منهم التمثيل، وأن تصبح ممثلة حقيقية وتقربت بشتى الطرق لكل من كان قادرا على مساعدتها وأقامت العديد من العلاقات الغرامية لخدمة مصالحها، وتعلمت كيف تقوي علاقتها بكل من هو مهم، وأجرت عمليتين للتجميل في وجهها. ولكنها في الوقت نفسه كانت في منتهى الجدية، في ما يتعلق باتقان التمثيل، لأنها أرادت أن تكون ممثلة عظيمة، ولذلك فإنها دخلت أشهر معهد لدراسة التمثيل، وقد قال مدير ذلك المعهد بعد ذلك بسنوات بأنها كانت من أفضل طلابه، ومن زميلاتها في المعهد كانت الممثلة جين فوندا، التي تحدثت عن تجربتها مع مارلين ورفضها القيام بعرض أمام بقية الطلاب، لأنها كانت دائما ترفض أن تقدم عرضا أمام الجمهور، إذا شعرت أن عرضها لن يكون مثاليا، وقد صاحبتها هذا المشكلة طوال حياتها، وكم مرة أتت متأخرة إلى الاستوديو لأنها لا يمكن أن تبدأ التمثيل إلا إذا شعرت باستعدادها التام له، وأن تمثيلها سيكون مقبولا بالنسبة لها هي. وكانت لديها مشكلة أخرى وهي حبها للسيطرة على حياتها وعلى ما حولها، فعندما دخلت في خلاف مع شركات السينما حول شروط عقدها قامت بتأسيس شركة إنتاج سينمائي خاصة بها، وكانت هي من أوائل من قاموا بذلك ما ساهم بأضعاف سلطة شركات الإنتاج السينمائي على الممثلين، وقد ظهر ميلها إلى فرض سطوتها في مجال التمثيل أيضا لأنها كانت في صدام دائم مع المخرجين حول كيفية تمثيلها، وعرفت بوقاحتها وازدرائها للآخرين. ومع كل هذا فإن مارلين نجحت في الصعود إلى القمة، لتصبح الممثلة الأكثر شهرة في العالم وتقابل أبرز الشخصيات آنذاك مثل الرئيس الأمريكي كندي والزعيم السوفييتي خروتشوف وملكة بريطانيا اليزابيث الثانية. ووصلت مارلين قمتها في فيلم «البعض يفضلونها ساخنة» وحسب الممثلين توني كرتس وجاك ليمون، فإنهما كانا يجاريان مارلين في التمثيل، فقد كانت مسيطرة على كل مشهد تظهر فيه، وعلى الرغم من أن الدور كان من الممكن أن يكون لائقا لممثلة أصغر منها سنا، إلا أن المشاهد لم يشعر بذلك، بل سُحِر الجميع من طاقم الفيلم ومشاهدين بقدرة هذه الممثلة على الإضحاك ومرونة حركتها، وكأنها شابة صغيرة، وما ساعدها على ذلك كونها رياضية متمرسة منذ بدايتها. وعلى الرغم من كل هذا فقد فشلت مارلين في عدة أشياء، أولها كان الإنجاب لأصابتها بمرض يمنعها من ذلك، وفشلت في معالجة الأرق حيث كانت تلجأ إلى الحبوب المنومة، وكادت أن تودي بحياتها عدة مرات بسبب الإفراط في تناولها. وكانت أول أمرأة تظهر عارية في مجلة معروفة، وأول ممثلة كبيرة تظهر عارية في فيلم سينمائي.
توفيت مارلين في الخامس من أغسطس/آب 1962 بسبب تناول جرعات مفرطة جدا من مادة باربيتوريت المخدرة، واستنتج الطبيب الشرعي آنذاك بأن سبب الوفاة قد يكون الانتحار، ولكن الإعلام ركز على احتمال آخر، وهو القتل على يد المخابرات الأمريكية، على الرغم من عدم وجود أي سبب أو دليل يدعم هذا، إلا أنه بالتأكيد كان ادعاء يجذب الأنظار ويجعل وفاة مارلين فيلماً بحد ذاته وحدثا ذا أبعاد سياسية واجتماعية، ما زاد من شهرتها كثيرا حتى بعد وفاتها. وبعد أن دفنت مارلين تسارع الكثيرون لشراء الأماكن المخصصة للدفن حول قبرها، وكلما زاد قرب المكان من قبرها زاد السعر، وقد اشترى صاحب أشهر المجلات الأمريكية المكان المجاور لقبرها. ويضاف إلى ذلك أنه توفيت وهي شابة نسبيا فلم يستطع أحد أن يراها عجوزا مترهلة، وستبقى مارلين في ذاكرة التاريخ تلك الحسناء المفعمة بالشباب والضحكة الخالدة مرسومة على وجهها وكأنها تقول للجميع «أنا الأشهر».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى