مهرجانات جبيل الدولية تكرم فيلمون وهبي ونصري شمس الدين

شادي علاء الدين

تكرّم مهرجانات جبيل الدولية الموسيقار الراحل فيلمون وهبي والمطرب نصري شمس الدين في حفل يحمل عنوان “نصري وفيلمون في البال”. يحيي الحفل المطرب غسان صليبا والمغنية باسمة والمطربة المغربية أسماء المنور الذين سيقدّمون مجموعة من أغنيات نصري شمس الدين وباقة من ألحان فيلمون وهبي. يستمر الحفل على امتداد ساعتين ويتضمن إضافة إلى استعادة أعمال العملاقين الراحلين، عرضا موسيقيّا راقصا يخرجه مروان الرحباني ويقوده غدي الرحباني مع مرافقة على البيانو من أسامة الرحباني. ويقدّم العرض الممثل المسرحي رفيق علي أحمد.

يشكّل هذا التكريم مناسبة لمحاولة تقديم قراءة ترصد أثر فيلمون وهبي ونصري شمس الدين داخل التجربة الرحبانية تكاملا واختلافا، حيث يسود انطباع عام يحرص على وضعهما في سياق مظلومية تسبّب بها الرحابنة، شملتهما مع قامات كثيرة غيرهما.
فيلمون و التجربة الرحبانية

كانت التجربة الرحبانية نهرا متدفّقا يجرف كل ما يقف في سبيله ولكنها كانت في الوقت نفسه الساحة التي أتاحت للكثيرين الظهور بشكل متفرد والتعبير عن أنفسهم بخصوصية تنافس التجربة الرحبانية وتناقشها من داخل ما كرّسته من خصوصية وكذلك من خارجها.

ولعل عوامل التقارب التي تجمع بين فيلمون وهبي والرحابنة تكمن بشكل خاص في مشروع لبننة الأغنية اللبنانية الذي بدأ بإخراجها من دائرة النص الغنائي المكتوب باللهجة المصرية، والذي ربما يكون القرار الذي أصدره رئيس الحكومة ووزير الإعلام رياض الصلح الذي يفرض على الملحّنين اللبنانيين البحث عن نصوص شعرية لبنانية لألحانهم فاتحة الحضّ على تحوله إلى مشروع واضح.

بدأ المشروع بلبننة نصوص الأغاني ثم ما لبث أن توسع ليخلق مشروع لبننة الأساليب الغنائية اللبنانية، وابتداع مدرسة لحنية خاصة تختلف عن المدرسة المصرية التي كانت تعرف سطوة كبيرة في نهاية النصف الأول من القرن العشرين الذي شهد ظهور قرار رياض الصلح.

يسجل لفيلمون وهبي أنه نجح في إقناع المطربة المصرية المعروفة شريفة فاضل في الغناء باللهجة اللبنانية، فبعد أن طلبت منه لحنا أخبرها أنه سيلحن لها نصا مكتوبا باللهجة اللبنانية ما أثار استغرابها، ولكنه أكد لها أن الأمر بسيط، وأن بإمكانها التعود على اللهجة. هكذا خرجت إلى النور أغنية “يوم الحد تلاقينا” التي علق عليها فيلمون في أحد المقابلات معتبرا أن المطربة المصرية أدتها وكأنها بنت الجبل اللبناني.

إلى ذلك يحرص كثيرون على تصوير فيلمون وهبي في موقع مظلومية تسبب بها الرحابنة عن قصد، ويتحدثون عن ميل الرحابنة الدائم إلى تحجيم وتقزيم كل من كان يعمل معهم.

ربما يكون هذا الأمر محل جدال كبير وعقيم على الأرجح، ولكنه على العموم لا ينطبق على تعامل الرحابنة مع فيلمون وهبي الذي منح دورا واسعا في المسرح الرحباني كممثل خصصت له شخصية “سبع″ التي لازمته إضافة إلى أنه كان الوحيد الذي سمح له بالاقتراب لحنيا من الأيقونة التي يعتبرها الرحابنة درة تاج مشروعهم الغنائي أي السيدة فيروز في الأعمال المسرحية الغنائية الخاصة بهم.

لا يشكل اقتصار الحضور اللحني لفيلمون على لحن واحد في المسرحية انتقاصا بقدر ما يمكن أن يجرّ إلى طرح أسئلة مغايرة حول سماح الرحابنة لتجربة مغايرة لهم بأن تنطلق من داخل عرينهم، ما يشي بأن الرحابنة كانوا مقتنعين بأن فيلمون وهبي ليس حالة يمكن تطويعها ولجمها أو حصرها، وأن التحالف معه يصب في خدمة عنوان لبننة الغناء، ومنحه بعدا متمايزا عن سائر أنواع الغناء المنتشرة في المنطقة.

من هنا تمثلت خصوصية التحاور الفني الذي جمع بينهم وبين فيلمون والتي اتخذت من صوت السيدة فيروز مسرحا تستعرض في آفاقه الرحيبة الأمزجة التلحينية الرحبانية التي كانت تتسم بالأناقة والانسيابية والفخامة، إلى جانب فرادة فيلمون في تصميم ألحان يمكن وصفها بأنها تنطوي على معادلة تقديم خلاصة تطريب مكثّف وموجز ومتّصل يطلق الأداء إلى أقصى حدوده.

كان معروفا أن فيلمون وهبي يخص فيروز بأفضل ما يمكن له أن يقدمه من ألحان. وفي لقاء تلفزيوني لم يعرف تاريخه تناط مهمة إجراء حوار مع فيلمون وهبي إلى منصور الرحباني.

يفتتح منصور حواره معه بسؤاله عن السبب الذي يدفعه إلى تخصيص أجمل ما عنده للسيدة فيروز مع أنه صاحب تجربة تلحينية عريضة، فيجيب فيلمون أن ذلك عائد إلى: أني أحبكم أولا، ولأن السيدة فيروز هي صاحبة الصوت العظيم الواسع، سائلا منصور هل تستطيع أنت أن تؤدي لحنا وضعته لفيروز؟

– لماذا تحزن حين تسمع لحنا جميلا لغيرك، لدرجة أنك لا تنام ليوم كامل؟

– لا أحزن بل أغار من كل لحن جميل، فعندما تصنعون لحنا جميلا لا أنام.

– إذن، لن تنام أبدا.

– فيكم البركة وفيّي البركة.

– لماذا تشتمنا دائما ولا تراضينا إلا حين نأتي إلى دمشق؟

– أنتم لا تشتمون.

– سمعتك بأذني تشتمنا.

– طيب هيك وهيك.

يلخص هذا الحوار غير الشائع كثيرا طبيعة العلاقة بين فيلمون والرحابنة والتي تقوم على الاعتراف والندية والصداقة.
لفيلمون وهبي العشرات من الأغنيات الساخرة والتي لم يتورّع في بعضها عن توجيه شتائم مباشرة وبالاسم إلى كل السياسيين الذين كانوا في السلطة إبان مرحلة الحرب الأهلية، وقد باتت تلك الأغاني التي لم يسجل معظمها رسميا بمثابة التراث الفيلموني الموازي الذي يخرج من أسر الهالة الفيروزية والرحبانية، ليقيم في مدار الخفة والسخرية.

شكلت تلك الأغنيات رصيدا ثمينا وخاصا في مسيرة فيلمون، إذ أن سهولتها وسرعة انتشارها وتوقيت ظهورها في مرحلة من أقسى المراحل الدموية التي مر بها البلد منحتها خصوصية لافته، فقد استعملها الناس وسجلوها من جلسات خاصة وتداولوها فيما بينهم بصيغتها الطازجة التي لم تمسها ضرورات التسجيل أو يطالها مقص الرقيب.

بدت تلك الأغنيات إضافة إلى التسجيلات من سهرات خاصة التي كان فيها فيلمون يلحن النكات تقريبا، وكأنها العالم الموازي الذي يسخر فيه من البلد وأحواله التي اضطرته إلى الفرار من مسقط رأسه كفرشيما، ومن السياسة وكذلك من صورة الملحن المتجهّم والجدّي، ومن الوضعيات المتخيلة التي طالما ارتبطت بصورة الملحنين.

أجاب مرة عن سؤال يتعلق بالحالة التي يكون فيها عندما يلحن وهل هناك وضعية معينة يتخذها، أو أجواء يحرص على تأمينها، فأجاب متهكما ألحن وأنا قاعد، وأنا واقف وأنا أدخن وأنا أصطاد.

من هنا يمكن القول إن فيلمون كان يحارب المنطق الذي يعتبر التلحين فعلا مستقلا عن الحياة ومنفصلا عنها ومتطلبا لوضع يركب من خارج سياقاتها اليومية. كان يؤمن أن التلحين والغناء والفن عموما هو ما يفيض من الحياة في تفاصيلها العادية والمألوفة، وأنه يمكن أن يجمع الحلم والخيال مع النقد والملاحظة وتسجيل التفاصيل العابرة والبناء عليها.

هكذا فإنه في موازاة كرم العلالي، والصيف المصيّف على جبهة الحبيب، يطالب بكش الدجاج من قدام البيت، ويعاتب رشا على تأخر العشاء، ويزمر لفيليب حبيب الذي يضرب ولا يصيب، ويعلن أن فيلمون أتى ليبهدلكم.

كان فليمون يطلق على ما يلقيه في المناسبات الرسمية من كلمات تسمية القصائد الخنفشارية كتعبير عن استخفافه بها، إضافة إلى أنه كان يصرف وقتا كبيرا في التدخل لدى المحاكم وتقديم وساطات ومرافعات دفاعية لمحاولة تجنيب من يقصده من المغلوبين على أمرهم مغبة الظلم، مستعملا هالته وشهرته، وعندما سئل إذا كان ذلك يصب في خدمة مشروع زعامة سياسية، ما كان منه إلا أن أجاب” لكان، الزعامة منيحة”.

كان فيلمون يعتبر أن قيمته التلحينية لا تتبع سياقات التعظيم، بل تكمن في أنه يفتح سكة جديدة على حدّ تعبيره، ولعل ذلك أصدق توصيف يمكن أن يعبّر عن واقع تلك التجربة التي لم نكتشف كل أسرارها بعد.

نصري شمس الدين: المرارة والبهجة

لا يزال رحيل الفنان المميز نصري شمس الدين والظروف التي رافقته تثير نوازع الحسرة والأسى على الرغم من مرور 34 عاما على وفاته.

توفي شمس الدين بعد سقوطه المفاجئ على المسرح في فندق دمشق الكبير خلال تقديمه إحدى وصلاته الغنائية إثر إصابته بنزيف في الدماغ.

عاد جثمان ابن قرية جون إلى لبنان في موكب رسمي شكل بأمر من الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد، ولكن الموكب توقف عند نقطة ظهر البيدر وبقي الجثمان مربوطا على سطح سيارة أجرة.

لم يجد من ينقله مباشرة إلى مسقط رأسه على الرغم من الاتصالات التي يروي ابنه مصطفى أنه أجراها مع كبار المسؤولين الرسميين في تلك الفترة ومع الصليب الأحمر لتأمين انتقال الجثمان إلى مسقط رأسه.

تبرّع سائق سيارة تاكسي بالمهمة بعد أن عرف لمن يعود الجثمان الراقد في النعش العالق عند المعبر، فأنجز المهمة متحملا المخاطر.

وخلال التشييع الذي تمّ بعد أربعة أيام من الوفاة أصر مصطفى نجل الراحل على رفض تسلم وسام قرر أمين الجميل الذي كان في منصب رئيس الجمهورية في تلك الفترة أن يمنحه للفنان الراحل، كموقف يحتج به على ما تعرض له والده في لحظة رحيله من قلة تقدير من الجهات الرسمية، خلفت مرارة قاسية لا يمكن محوها.

مقابل تلك الخاتمة الحزينة تنفتح سيرة حياة تضج بالبهجة والحيوية التي يؤكدها كل من كان يعرف نصري شمس الدين أو عايشه، فالرجل كان محبا للطعام والمرح والصداقات، ولعل هذه النزعة انعكست على طبيعة ما قدمه من أغنيات شاعت وانتشرت بقوة بعد أن وجد فيه الرحابنة استثمارا مثاليا ومميزا، دفع بهم إلى تكريسه بوصفه الشخصية التي اكتملت بها أعمدة البناء الرحباني، فكان يوصف بأنه يمثل العمود الرابع في هذا البناء.

وكما هو الحال مع فيلمون الذي كان واحدا من أبرز الملحنين الذين منحوا نصري ألحانا مميزة، فإن حديث المظلومية الرحبانية له ومحاصرته في دائرة محددة طاله كما طال فيلمون. في الحقيقة لا يمكن تلمّس ما يدعم هذا الخطاب من خلال متابعة تاريخ الحضور البارز لنصري في المسرح الرحباني وتخصيصه بألحان لأغنيات يؤدّيها بشكل منفرد في المسرحيات، وإعطائه موقعا مميزا في الحوارات الغنائية التي كانت سمة خصوصية للمسرح الرحباني.

إذا كان هناك من ظلم ما وقع على نصري فإنه عائد إلى تصادف ظهوره وبروزه مع وجود الوحش الغنائي، صاحب الصوت الذي يمتلك قدرات استثنائية أي وديع الصافي، الذي كان يتسبب بأزمة لأيّ صوت غنائي ظهر في الفترة نفسها، أو لأيّ صوت يشترك معه في محاورة غنائية. وحده صوت صباح كان الصوت الذي لا يذوب تماما في وهج صوت وديع الصافي.

على الرغم من ذلك نجح نصري شمس الدين في أن يشكّل حالة خاصة في الأغنية الفلكلورية القصيرة والأغنية الشعبية، إضافة إلى شهرته بطريقته الخاصة في تقديم الموال.

وكان لافتا أن السمعة التي ارتبطت بنصري تقول إنه صاحب الصوت الذي لا يقلّد، ليس لأنه يصعب وجود أصوات قادرة على إصابة الطبقات الصوتية التي كان يملكها بل بسبب طريقته الخاصة في الأداء، التي جعلت عمليات إعادة إنتاج تراثه الغنائي وانتشارها بأصوات مطربين جدد قليلة إلى حد الندرة.
والمفارقة تكمن في أن الأمر نفسه لا ينطبق على التعامل مع تراث وديع الصافي صاحب الصوت المرعب، الذي نجد أن الكثيرين يحرصون على إثبات امتلاكهم لطاقات صوتية مبهرة من خلال استعادة أعماله الغنائية وتسجيلها.

كل هذا يؤكد أن نصري شمس الدين كان حالة خاصة لم يقتصر حضورها على الغناء الفلكلوري والموال، بل تشكل هذه التجربة التي طبعت أسماعنا وسيطرت على تلقينا لتراثه الغنائي سوى المرحلة التي استقر عليها فترة طويلة، ولكن كانت هناك مراحل كثيرة تسبقها تتضمن غناء القصائد والموشحات.

ضاع الكثير من تراث نصري مع ضياع بعض التسجيلات التي كانت الإذاعة اللبنانية تنفذها أو وقعت سرقتها في فترة الحرب، إضافة إلى أن بعضها تم في الكويت وغيرها. لا يزال الكثير من أعماله والذي لا تعرفه الأجيال الجديدة والتي قد يكون بعضه قد غاب حتى عن معاصري فترة سطوع نجمه مع الرحابنة، في انتظار نفض الغبار عنه وإصلاحه وترميمه وعرضه من جديد على الناس.

يؤكد كثير من الباحثين أنّ ما وصل إلينا من أعمال نصري شمس الدين لا يشكل سوى جزء من مجمل ما قدّمه، والذي لا يزال ينتظر الكشف عنه والإضاءة عليه.

كذلك تجدر الإشارة إلى أن نصري لا يختصر في شخصية المطرب، فقد نجح في التمثيل لدرجة أن هالة الممثل صارت توازي هالة المطرب، وخصوصا بعد أدائه الخرافي لدور فخر الدين في المسرحية الرحبانية التي تحمل الاسم نفسه، ولكنه كان حريصا على وضع الممثل في خدمة المطرب، حيث كان يؤكد دائما أن الدور المسرحي إنما يشكل إطارا تتحرك داخله الحالة الغنائية.

ولعل توصيفه لطغيان الأغنية الشعبية في إحدى المقابلات يضيء على ملامح شخصيته، فقد قال بوضوح إن الأغنية الشعبية هي السائدة لأننا في عصر السرعة الذي يفرض نمطا من الأغنيات التي لا تتجاوز مدتها الثلاث دقائق، كما أن “فيها عملة أكتر”.

تتجلى ثقته العالية بنفسه وقدراته الغنائية في جوابه على سؤال حول قدرة مطرب يغني اللون الشعبي في بلد مثل لبنان على أداء اللون الشعبي في بلد آخر، وإذا كان يستطيع أن يغني مثل محمد رشدي مثلا، فأجاب ببساطة “بالطبع أستطيع، ولكن لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يقدم اللون الشعبي الذي أقدمه مثلي”.

وفي ختام الحديث عن نصري الذي يبقى ضيّقا مهما اتسعت مساربه يمكن أن نستعمل وصف فيروز له التي قالت عنه “إنه الشخص الذي ألغى نفسه لصالح الجماعة”.

ربما لم يلغ نصري شمس الدين نفسه إلا لكي يجدها وقد توزعت وانتشرت في نفوس كثيرة تكرمه الآن وتكرم فيلمون وهبي الذي فارقنا عام 1985 في زمن لا يمنح التكريم فيه إلا للقتلة ومخربي الذوق وهادمي الثقافة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى