هوية الغناء الجزائري على المحك بعد رحيل أساطيره

صابر بليدي

بكى جمهور وعشاق الفن الجزائري الأصيل فقدان عميد أغنية الراي بلاوي الهواري في مسقط رأسه بمدينة وهران، لينضاف بذلك إلى أساطير فنية أخرى غيبها الموت تباعا في الأشهر الأخيرة، على غرار عميد أغنية المالوف محمد طاهر الفرقاني، وقبله عميد الأغنية الشعبية الشيخ اعمر الزاهي.

وبقدر ما كانت مشاعر الأسى والحزن على صمود هذا الجيل أمام الجحود والنكران وانكماش هامش الفن الأصيل أمام غزو الموسيقى الهجينة والدخيلة، كانت أيضا على مصير أغنية الراي والمالوف والشعبي بعد رحيل هؤلاء إلى دار الخلود، فلا خالد ولا مامي ولا بلال، بإمكانهم ملء الفراغ الذي تركه بلاوي الهواري، رغم إيصالهم أغنية الراي إلى العالمية.

صرح الفنان قويدر بوزيان لـ”العرب” بأن رحيل هذا الجيل سيترك الأغنية الجزائرية يتيمة، فالفن الجزائري يعاني من إخلالات خطيرة، بسبب القطيعة بين الأجيال وغياب الهيئات الرسمية عن الميدان، ما تسبب في انحسار التجارب والخبرات وعدم انتقالها السلس أو توريثها تباعا للأجيال القادمة.

وأضاف “صحيح الساحة الفنية والموسيقية ثرية بالوجوه والأسماء، لكن السؤال الذي يبقى مطروحا ماذا استفدنا من تجربة ورصيد فنانين كبار لم نستفق إلاّ على رحيلهم الأبدي، وإذا كان هناك خالد ومامي في الراي، وحمدي بناني في المالوف، وعزيوز رايس وعبدالقادر شاعو في الشعبي والقائمة طويلة، فإن الحيز الذي كان يشغله أمثال بلاوي الهواري والفرقانيوالزاهي لا يمكن تعويضه، فلكل خصوصيته ولمسته”.
وإذا كانت الساحة الفنية الجزائرية لا تزال تعج بكوكبة كبيرة من وجوه الفن الأصيل، ومن الأسماء التي قفزت بالأغنية الجزائرية من مسقط رأسها إلى العالمية، كما هو الشأن بالنسبة إلى أغنية الراي التي تفتقت من مدينتي وهران وسيدي بلعباس بغرب البلاد، إلى المسارح والصالات العالمية، وبشكل أقل الأغنية القبائلية بسبب تعلق الجاليات المهاجرة بها، فإنه لا بد من الاعتراف بأن طبوعا أخرى ما زالت حبيسة ضواحيها التاريخية رغم توزع جمهورها في ربوع البلاد.

وما زالت الأغنية البدوية مقرونة بالصحراء، والشاوية بمناطق الأمازيغ في المناطق الداخلية والهضاب، والشعبية بالضواحي القديمة للعاصمة، دون أن تحظى بالرعاية اللازمة التي تكفل توسيع جغرافيتها وفتح مدارس خاصة بها، لتلقين الأجيال الجديدة أصول الفن الجزائري وصون الشخصية الفنية للجزائر.

ويقول الفنان قويدر بوزيان بأن المهرجانات والتظاهرات الفنية والموسيقية تبقى محطات ظرفية وآنية، تفتقد إلى القدرة على تسويق مختلف الطبوع المحلية وفتح الأبواب أمام الطاقات الشابة، والحصار المجازي الذي عانى منه أمثال اعمر الزاهي وبلاوي الهواري في السنوات الأخيرة، زاد من حدة القطيعة بين الأجيال.

وثمن بوزيان كثيرا مشروع ملك الراي الشاب خالد بتكوين مدرسة خاصة بأغنية الراي من أجل تكوين أجيال جديدة، والاستفادة من تجارب ورصيد عمالقة هذا الطابع، ودعا إلى تكرار التجربة مع الطبوع الأخرى، خاصة بالنسبة إلى التي تشهد انكماشا كبيرا، كما حضّ على ضرورة تكافؤ الفرص بين الجميع لأن لكل طبع جمهورا وعشاقا وتاريخا.

يُشهد للفنانين بلاوي الهواري ومحمد الطاهر الفرقاني واعمر الزاهي في تكريس حياتهم للحفاظ وصون الأغنية الجزائرية الأصيلة (الراي والمالوف والشعبي)، فرغم ثورتهم على ما كان سائدا في طبوعهم وتعديله باجتهاداتهم، فقد انتهوا بدورهم إلى إرساء قواعد مدارس فنية جديدة.

وعرف الفنان الراحل بلاوي الهواري بتقديم الأغنية الوهرانية بإيقاعات وقصائد جديدة مكنتها من الوصول إلى العالمية، بأصوات شابة تتلمذت على يديه على غرار الشاب خالد والشاب مامي، كما انتفض اعمر الزاهي على الطابع القديم لأغنية الشعبي، ورغم كل الانتقادات التي تلقاها من قبل سلفه، إلاّ أنه تمكن من إثبات جدارته وانتزاع مكان مهم في الساحة الفنية، ونفس الشيء بالنسبة إلى محمد الطاهر الفرقاني، الذي أثرى أغنية المالوف بأزيد من خمسين أسطوانة، هي اليوم تعتبر مرجعا في مبادئ التجديد في أغنية المالوف.
وبدأ الراحل بلاوي الهواري مسيرته الفنية في أربعينات القرن الماضي، حيث باشر مشواره كمغن في مقهى “الطحطاحة” رفقة والده محمد التازي، وحقق حينها أول نجاحاته بفضل أغنية “اسمع”، ثم أدى أغاني كثيرة على غرار “المرسم” التي اشتهر بها الفنان محمد خليفاتي (الشاب مامي) في بداية مسيرته نحو العالمية و”راني محير” التي أعاد أداءها المغني رشيد طه.

وترك الهواري بصمته الشخصية على طابع الأغنية الوهرانية (الراي)، فاعتبر مجددا لها، بل ومبدعا لطبعه الموسيقي، كما ابتكر ربع المقام، وكوّن أول فرقة فنية له في العام 1943 وسجّل أسطوانته الأولى في العام 1949، وله في رصيده أكثر من 500 أغنية.

أما الفنان اعمر الزاهي المعروف بارتباطه بضاحية باب الوادي العتيقة في العاصمة الجزائر، والذي يعدّ مطرب الفئات الفقيرة والمعوزة، فقد ظل في سنواته الأخيرة ملتزما بخلوته في بيته بحي الرونفالي، وأسيرا لذكريات الماضي بقصة عشق جميل رواها في أغنية “زينوبة” ومتعلقا بأستاذه الفنان بوجمعة العنقيس.

وظل رافضا لأضواء الإعلام ودعوات الرسميين، بمن فيهم وزراء تنقلوا إلى بيته من أجل إقناعه بالغناء في مناسبات وقاعات رسمية، ليكتفي بحفلات وأعراس البسطاء بالمجان ويطرب جمهوره وعشاقه بروائه “مريومة” و”يا المقنين الزين” و”لالة باني” و”أنا عندي قلب” و”يا رب العباد” و”قاضي ناس الغرام”.. وغيرها.

ويصف عشاق طاهر الفرقاني الذي بدأ مشواره في جمعية “طلوع الفجر”، وأغاني عمالقة الفن العربي كأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، بكونه جسرا من جسور مدينة قسنطينة، فهو واحد من أعمدة فن المالوف المشهور في الشرق الجزائري، ويعرف بتميزه بصوت يوصف أيضا بـ”الاستثنائي” نظير قدراته اللافتة على أداء الأغاني على أربع مجموعات من ثماني وحدات، كما كان يؤدي الأغاني التقليدية بطريقة متزنة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى