فيلم الخيال العلمي «سولاريس» لأندريه تاركوفسكي في نسخة مرممة

سليم البيك

خسمة أفلام للمخرج السوفييتي أندريه تاركوفسكي تم ترميمها مؤخراً، وهي تُعرض حالياً في العديد من الصالات الفرنسية. الأفلام هي «طفولة إيفان» (1962) و«أندري روبليف» (1966) و«المرآة» (1975) و«المتعقّب» (1979) و«نوستالجيا» (1983) و«التضحية» (1986) و«سولاريس» (1979)، قدّمتها بشكلها الجديد شركة «بوتيمكين» الفرنسية للتوزيع، المعنية أساساً بكلاسيكيات السينما العالمية وتقديمها مجمّعة ومرمّمة.
قد يكون، من بين الأفلام المذكورة، فيلم «سولاريس» هو الأقل جذباً للمُشاهد، لسببين أساسيين: أولهما أنه فيلم خيال علمي، لهذه الأفلام جمهورها لكنّه إجمالاً جمهور بعيد عن أفلام تاركوفسكي، أو أفلام زملاء لتاركوفسكي، حيث الإعجاب بأحدهم سيجرّ غالباً للإعجاب بالآخر: كالسويدي إنغمار بيرغمان والفرنسي روبير بريسون، والياباني ياسوجيرو أوزو، والإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، فجمهور تاركوفسكي يميل للأفلام التي تشبه المخرجَ ومجمل سيرته الفيلميّة -وهي قصيرة إنما عظيمة- وأقلها شبهاً به هو هذا الفيلم.
أمّا على الناحية الأخرى، جمهور الخيال العلمي، فلن يعجبه مجمل أعمال تاركوفسكي، ولذلك لن يعجبه «سولاريس» فهو ليس فيلم خيال علمي في الأساس، بل هو فيلم سيكولوجيا على شكل خيال علمي، ومحمّل بأسئلة فلسفية، وهو فيلم فنّي، بطيء جداً، وطويل كذلك، هادئ ومقلّ بالحوارات، بحركات متمهّلة للكاميرا، وليس هذا مما يفضّله جمهور الخيال العلمي والأفلام التي تجري أحداثها في المركبات الفضائية، حيث الكوارث تثير ضجّة وتكون مبهرة بتأثيراتها الخاصة، وليست نفسية وهادئة كما هي هنا.
نبدأ إذن بمراجعة «سولاريس» ونترك الأفلام «الأفضل» لتاركوفسكي للأيام اللاحقة. وهي ليست «أفضل» للأسباب المذكورة أعلاه أنّما لأن الأربعة الأخرى أكثر فنّية، ويمكن القول بأنّها أكثر شبهاً بتاركوفسكي نفسه، الذي أنجز فيلمه هذا كنوع من التفاعل مع فيلم آخر يحمل كذلك مضموناً فلسفياً أكثر منه علمياً هو «2001: أوديسيا الفضاء» للأمريكي ستانلي كوبريك الذي سبق الفيلم السوفييتي بأربع سنوات، فقد أُنتج عام 1968. بعد ذلك، في عام 2002، أخرج الأمريكي ستيفن سودربيرغ فيلماً سمّاه «سولاريس» كذلك، عن الرواية نفسها التي أخذ عنها تاركوفسكي حكاية فيلمه، التي تحمل العنوان ذاته. أتى فيلم سودربيرغ محاكاة متواضعة ولها صبغتها الأمريكية التجارية، لفيلم «سولاريس» الأصلي. أما الرواية فهي للبولندي ستانيسلاس ليم، وصدرت عام 1961.
«سولاريس» هو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج السوفييتي، بعد «طفولة إيفان» و«أندري روبليف»، وهو ما تمّ وضعه، ظلماً، في سياق الحرب الباردة، كالنّسخة السوفييتية لفيلم كوبريك، الذي يُعدّ من بين أفضل الأفلام في تاريخ السينما، وفيه كذلك ظلم لتاركوفسكي الذي لا يُعَد الفيلم من بين أفضل ما أنجز -هو نفسه يعتبره الفيلمَ الأقل نجاحاً له- في حين أن فيلم كوبريك هو، بمعايير عدّة، يُعتبر من بين أفضل ما أنجز.
يبدأ الفيلم بلقطات لأعشاب تحت مياه جارية، ولطبيعة خضراء بلقطات مقرّبة، طبيعية بأصواتها: طيور ومياه وشجر ومطر، هي من بين اللقطات الأكثر رسوخاً في الذاكرة، مما صوّره تاركوفسكي، وهو عالم مختلف تماماً عمّا سنراه بعدها بقليل، على مركبة الفضاء، حيث يتحوّل الخضار والخصوبة والحياة في المشاهد الأولى على كوكب الأرض إلى بياض وعقم وموت في المركبة التائهة حول كوكب اسمه سولاريس.
كلفين، عالم نفس، يتم إرساله في مهمّة إلى محطة الفضاء على مدار كوكب سولاريس الغامض، الذي تغطيه البحار الهائجة في تناقض بيّن مع مياه البحيرة عند بيت والده على الأرض. منذ وصوله يلحظ الفوضى الهائمة في المحطّة، القلق والاضطراب والسّكون، فأحد زملائه هناك كان قد انتحر، والاثنان الباقيان -الفريق كلّه كان من ثلاثة روّاد- في حالة اضطراب نفسي أقرب للجنون، ما يظهر التأثير المضطرب لهذا الكوكب على الحالة النفسية للمقتربين منه والدائرين في فلكه.
ما إن يصل كلفين لتفحّص ما يجري على المركبة، حتى يدخل هو نفسه حالة الاضطراب هذه، من خلال استعادات استيهامية لزوجته التي انتحرت قبل سنوات، تأتي على شكل امرأة أخرى، جميلة، شابة، مضطربة كذلك، تسيطر عليه، نفسياً، إلى أن تقدم هي كذلك على الانتحار قبل عودته إلى الأرض، بدون أن يدرك تماماً إن كانت خيالاً أم واقعاً.
عودة زوجته بهذا الشكل، في الفضاء، كأنّها روحها المحلّقة، إنّما كانت عائدة بشكل جسدي تام، مادي، حميم، فيمضيان معظم الوقت متلامسان ومتقاربان، عودتها بهذا الشكل جعله يوازي بين تقرّبه منها ومحاولته التخلّص منها، لعدم إدراكه، ولا هي، بماهيّتها: إنسانة أم خيال أم حلم أم ذكريات مستعادة بشكل معدّل.
البطء في الفيلم، بخلاف ما يمكن أن يجذب البعض، كان حاجةً جماليّة سيكولوجيّة تأمّلية هنا، جمالية من ناحية الصّورة، وهذا امتياز تاركوفسكيّ، وسيكولوجيّة لطرح المخرج العلاقة بين الوجود الإنساني من جهة والكون والحب والخلود من جهة ثانية، إضافة إلى العلاقة بين الإنسان كفرد له عوالمه الداخلية وكلّية العالم الخارجي، من الحياة على الأرض في بيت أبيه بجانب البحيرة الهادئة إلى مركبة الفضاء التي تدور حول كوكب من البحار الهائجة والملوّنة.
الفيلم تأملات عن الإنسان ووعيه، عمّا يدركه وما يتخيّله، متراوحـــــاً بذلك بين الحياة والموت، والأرض والفضاء. فيلم فلسفي وليس العالم الفضائي فيه سوى السياق الضروري لخدمة فكرته الفلسفية.
نال « Solaris» في مهرجان «كان» السينمائي عام 1972 جائزة لجنة التحكيم الكبرى، وجائزة «fipresci – الفيدرالية الدولية لنقّاد السينما»، وهو اليوم من كلاسيكيات المهرجان، ومن بين أفضل أفلام الخيال العلمي في تاريخ السينما.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى