الحرب على طريقة الشاعرة العراقية “دنيا ميخائيل”

-الصّادق الرضي-

 

بست كلمات تبدأ قصيدتها (الحرب تعمل بجد): “كم هي مجدة الحرب.. ونشيطة وبارعة”؛ وهي تكتب قصيدتها بأقل عدد ممكن من الكلمات، القصيدة التي تكتبها العراقية دنيا ميخائيل ذات طابع غاية في الاقتصاد اللغوي والكثافة الشعرية، كما سنقرأ في بعض من قصيدتها (كيس عظام) تلك التي نشرت سنة 2003 أثناء الغزو الأمريكي للعراق: (يا للحظ!/ عثرتُ أخيرًا على عظامه/ جمجمته أيضًا في الكيس/ الكيس بيدها/ يُشبه بقية الأكياس/ في الأيادي المرتجفة الأخرى/ عظامه تُشبه آلاف العظام/ في المقبرة الجماعية)..

ودنيا التي تكتب بالعربية والإنكليزية وتعيش في مدينة ديترويت الأمريكية، ولدت في سنة 1965 في مدينة بغداد، وهي خريجة جامعة بغداد هاجرت في منتصف تسعينيات القرن المنصرم وتخرجت في جامعة وين ستيت في 2001 ونالت جائزة من الأمم المتحدة لكتاباتها عن حقوق الإنسان؛ لها عدة مجموعات شعرية بالعربية ومختارات شعرية من أعمالها صدرت بعنوان (الحرب تعمل بجد) ومجموعات مترجمة إلى الإنكليزية، ومشاركات في مهرجانات أدبية وثقافية؛ تحدثت لـ “القدس العربي” عقب مشاركتها الأخيرة في منتصف تموز/ يوليو الماضي، في مهرجان –شباك- للأدب العربي المعاصر في لندن، حول عدة محاور، عن الشعر والحرب والترجمة ومغامرتها الشعرية المقبلة.

■ أين وكيف ومتى عثرت على الشعر أو عثر عليك، أو كما قال لوركا يوماً: “من أراك طريق الشعراء؟”
□ لا أعرف بالضبط ولكن أتذكّر بأني التقيتهُ لأول مرة فوق سطح منزلنا في بغداد، حيث كنا ننام وكانت جدتي تعيش معنا وهي امرأة حكيمة جدًا، فكانت تحكي لي القصص الفلكلورية وقصص الحيوانات وتلخّص لي العبر والدروس. لم يكن عندنا أي كتاب في البيت في ذلك الوقت لذلك قمتُ- وأنا في السادسة أو السابعة من عمري – بتأليف ذلك الكتاب المكوّن من تلك الحكايات، ولكن بإسلوبي ورسوماتي. ومرة أخرى، بعد ذلك بأربع أو خمس سنوات، كنتُ مع الشعر مرة أخرى، فوق ظهر سفينة على نهر دجلة مع أقاربي. كتبتُ أول قصيدة لي وكانت عن موجات البحر، كيف تصل موجة إلى النهاية عندما تبدأ واحدة أخرى أو شيئًا من هذا القبيل، وحين أعطيتُ القصيدة لابن عمتي، عملَ منها زورقًا ورقيًا ورماها في النهر. استمتعنا بالنظر إلى القصيدة – الزورق وهي تتأرجح في النهر وتبتعد. بعد ذلك بأربع أو خمس سنوات، أهديتُ صديقاتي في أعياد ميلادهن قصائدَ من تأليفي وبخط جميل، فصاروا يسمونني –الشاعرة-.

■ الحصول على اسم- لقب “الشاعرة” في وقت باكر شيء جميل، ماذا تبقّى من طفولة الشاعرة، وطفولة علاقتها بالشعر؟
□ أشياء كثيرة في البال (أحيانًا لا يربط بينها رابط مثل مقاطع من أفلام مختلفة). الآن مثلاً يأتي في بالي الحائط الذي كان يفصل بين حديقتنا وحديقة الجيران. كان متصدعًا بسبب القصف الشديد، وفي يوم، ونحن نائمون، تهّدمَ الجدار. في الصباح رأيناهُ مستلقيًا على الأرض فاسحًا المجال لنا وللجيران بلقاءات من دون أبواب. كنا أصدقاء، ولذلك لم نقم بإعادة بناء الجدار، إذ وجدنا المساحة المفتوحة بيننا أكثر إمتاعًا وأقل تعقيدًا.

■ حدثينا عن جيلك الشعري، والأسئلة التي طُرحت عليه والأسئلة التي اقترحها من واقع التجربة.
□ كانوا يسمّوننا (جيل الحرب) لأننا بدأنا الكتابة في فترة الثمانينيات، حيث الحرب العراقية الإيرانية. إنما المفارقة أن الجيل الذي بعدنا هو جيل حرب أيضاً لأن التسعينيات شهدت حرب الخليج الثانية، والجيل الذي بعد ذاك هو جيل حرب أيضاً ومايزال! لا أعرف متى سيأتي جيل (ما بعد الحرب)؟
■ (الحرب تعمل بجد)، هل الشعر يعمل بجد كذلك، أعني هل لا تزال له جدوى، لا يزال مؤثرًا؟
□ الشعر غريب فهو بلا جدوى أبدًا ولكنه، مع ذلك مؤثر جدًا! الفراشة عندما تغادر الزهرة تسبّبُ رعشة في ورقة الزهرة. الشعرُ هو تلك الرعشة الصغيرة ولكن العظيمة بتأثيرها.

-قصيدتي لن تنقذكم- ربما فيها شيء من تلك الفكرة. هي منشورة في موقع (ضفة ثالثة).

■ نعم ربما لن تنقذنا القصيدة، لكن ماذا عن الحرب؟ هل ثمة ما يُحكى عنها بينما هي تشكل في أحايين كثيرة، خلفية لقصيدة ما تكتبينها؟
□ الحرب، بالنسبة لنا نحن العراقيين، هي واقع، والسلام بات خرافة، ولو أخشى أن أقول ذلك. الحرب باتت لنا كائنًا أليفًا جدًا، كيف لا وهي تنام وتصحو معنا؟ في بيتنا مثلًا، كانت لها غرفة خاصة سميناها (غرفة الحرب) وكان موقعها تحت السلالم. إخواني الأربعة لم يكن لكل واحد منهم غرفة، ولكن الحرب كانت لها غرفة خاصة في بيتنا. كانت غرفتها مرتّبة على ذوقها فالشبابيك مثلًا كانت مغطاة بأشرطة لاصقة حتى لا تجرحنا بشكل خطير في ما إذا تهدّمت. وفي الغرفة مذياع وبطاريات ورفوف فيها أغذية معلّبة. الحرب تحب المعلّبات والاستماع إلى الأخبار. وكان هناك زر بارز لإطفاء النور وقت الغارات. لذلك كتبتُ في إحدى قصائدي بأن (الحرب زر لإطفاء النور)

■ الكتابة بلغة أخرى- أعني الإنكليزية، حدثينا عنها؛ أيضا عن الترجمة الشعرية لأعمالك.
□ أنا محظوظة من ناحية الترجمة، ربما معرفتي إلى حدٍّ ما باللغة الانكليزية ساعدت في هذا الأمر، لأني دائمًا أساهم مع المترجمين في ترجمة قصائدي؛ معرفتي باللغة الانكليزية جعلتني أتحسَّس اللغة العربية بشكل أفضل؛ قصيدتي لها حياة ثانية بعد الترجمة، حياة أقل أو أكثر حظًا؛ دائمًا أكتب من اليمين إلى اليسار ثم أعود من اليسار إلى اليمين. عندما أترجم قصيدتي بنفسي، تتوفر لي فرصة تلمّس مناطق القوة والضعف في كتابتي. طبعاً لي حرية التنقيح والتغيير. عندما أترجم.

■ الإقامة في وطن ثانٍ، تجربة الهجرة أو الحياة في المنفى، هل صارت بغداد بعيدة حقًا؟
□ عندما خرجتُ من البلد سنة 1995 مضيتُ مثل أورفيوس بذلك الشرط الذي خرج به: لا تنظر إلى الوراء. التزمتُ بذلك الشرط فعلًا وأنا أمضي أبعد وأبعد، ولكن بعد عشرين سنة؛ نظرتُ إلى الوراء مثلما فعلَ أورفيوس أيضاً. بتلك النظرة، خسر أورفيوس حبيبته. لا أعرف ما الذي خسرتهُ أنا ولكن لم أستطع تجنب تلك النظرة، وأنا أرى البنات في بلدي يجري بيعهن واغتصابهن وإهانتهن. عدتُ إلى العراق من أجل كتابي (في سوق السبايا) الذي سجلتُ به صرختهن بقدر ما استطعت.

■ الجوائز الأدبية – حصلت على بعضها، المشاركات المختلفة في المهرجانات الثقافية – مشاركتك الأخيرة في مهرجان (شباك) في لندن، ماذا تضيف للمبدع من واقع تجربتك؟
□ الجوائز الأدبية فرصة جميلة للانتشار وقسم منها توفّر وقتًا إضافيًا للكتابة وتلك أفضل ميزاتها. أقصد عندما تكون الجائزة مصحوبة بمبلغ مالي جيد، تتيح للكاتبة أن تتفرغ قليلًا من عملها التقليدي لصالح الكتابة. أما المهرجانات فهي أيضاً فرصة للاطلاع على شغل الآخرين والتعرف إليهم وكذلك فرصة مشاهدة مدن جديدة إنما أحياناً تأخذ تلك النشاطات من وقت وطاقة المبدع، ولا تضيف بالضرورة أمراً جوهريًا. هي جزء من الحياة بايجابياتها وسلبياتها.

■ ما الذي يشغل أوراقك الآن من شعر؛ أسأل عن مغامرتك الشعرية المقبلة؟
□ أنا مستمتعة بكتابة قصائدي الجديدة، ولذلك أتوقّع أن يستمتع بها القراء كذلك. تتألف أكثرها من مقطعيات قصيرة. أود أن أتحفظ على تفاصيلها في الوقت الحاضر. في الحقيقة أشتغل على كتابين في وقت واحد. الثاني ليس شعرًا. هو مفاجأة.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى