مسلسل «قصة الخادمة» لمارغريت أوتوود: الفاشية التي تغزل مستقبلنا

دنى غالي

ظاهرة النساء والشابات اللاتي يرتدين الرداء الأحمر والغطاء الأبيض انتشرت في شوارع واشنطن وتورنتو احتجاجا على القرارات السياسية التي تمسّ قضايا المرأة وحقوقها، وهو ما أفزع مارغريت أتوود، الكاتبة الكندية التي اختلقت شخصية هؤلاء الخادمات أو الوصيفات بالزي الأحمر، في روايتها «قصة الخادمة» التي تروي ضمنا حكايا نساء الأرض تحت ظل حكم الأنظمة التوتاليتارية والثيوقراطية. صدرت الرواية عام 1984 وتمّ هذا العام إنتاجها أمريكيا من قبل شركة «هولو» كمسلسل يُعرَضُ الموسم الأول منه في عشر حلقات من خلال خدمة البث الحي عبر الإنترنت. حقق المسلسل انتشارا واسعا، وأعاد الأضواء إلى الرواية التي نفدت طبعاتها الجديدة، وتناولها النقاد والمراجعون بإسقاطات مغايرة لديستوبيا «غيلياد»، المجتمع الحديث بأثاثه، سياراته، بذلات قادته الوسيمين ورشاقة نسائهم، يخيّم الصمت عليه وكأن الفضاء تم إفراغه من الصوت بكل مصادره، لا أصوات أطفال ولا سيارات والسماء غائمة من دون طيور، وبين الحين والحين قد تظهر أمامك مشاهد جثث معلقة تم إعدامها في العلن على جدران المدينة المهندسة النظيفة. لا شيء يتخلف في البال سوى عيون راصدة وأسلحة مشهورة فجأة. اللون الأزرق يرمز للعذراء مريم ترتديه السيدات العاقرات، زوجات القادة من قمة الهرم، القلة الذين يملكون القرار ويتحكمون بغيلياد وينكحون شهريا بحضور زوجاتهم ووفق طقس خاص خادماتهم اللاتي يرتدين الزي الأحمر، رمز الخصوبة وربما السلطة الوحيدة التي يملكنها وهي الإنجاب.

فاشيات جديدة

إنها إشارة مباشرة إلى زمن ترامب وتبعات سياساته في المقبل من الأيام، كما كُتِب في الصحافة الأمريكية، كيفية تحول العالم شيئا فشيئا إلى ثكنة عسكرية عصرية يعيش الناس فيها في مراتب متباينة، يديرها نظام مخابراتي تجسسي مرعب، لا يمكن للإنسان فيه أن يولي ثقته لأحد، العقاب هو الموت لكلمة يمكن أن يزلّ اللسان بها والحرية محذوفة من برنامج تطبيق هذا العالم المثالي الذي يطمح القادة لتحقيقه. يتبادل القادة وزوجاتهم، والعمّات المربيات والخادمات والعاملات، السلام والتحية عند اللقاء بصيغ محددة مختلفة باختلاف فئات مجتمع غيلياد، وهي في معظمها جُمَلٌ مستوحاة من الكتب الدينية توضح سياستهم المتبعة باسم الله، ابتهالات من أجل عالم مبارك خصب، فتحٌ من الله ودعوة إلى صمت مقدس يريدون منه إخراس لسان المرأة بعد أن سلبوا مسبقا اسمها، فكل خادمة تسمى على اسم سيدها. يزيّن هؤلاء القادة وزوجاتهم الحياة داخل غيلياد، وكأنها الحلم لمن ينضم إليهم خيارا أو قسرا، النظام الغيليادي هو ما يريده الله وما يطمحون هم في تنفيذه للناس على وجه الأرض – هتلر كان أيضا يحلم بألمانيا عظمى وهو يرسم مخططا لها على الورق عبر كتابه «كفاحي» قبل أن يشرع بالتنفيذ. نفت الكاتبة أتوود أن يكون توقيت إنتاج المسلسل على ضوء الانتخابات وصعود ترامب وبدء فترة حكمه. صاغت هذا العالم قبل 30 عاما في تلك الرواية وفق مخطط حينها، ألا تكتب حادثة ولا تنصّ قانونا إلا من الواقع. أوتوود المولودة في عام 1939 نشأت محاطة بتفاصيل الحرب العالمية الثانية وظلالها في الواقع والأدب، الأمر الآخر والأهم خلف كتابة «قصة الخادمة»، كما ذكرت هو صعود التيار اليميني الديني في الولايات المتحدة أوائل الثمانينيات وتمريره وتبريره لسياسة رجعية شرسة باسم الدين والأخلاق.

الخيال التأملي

ترفض أوتوود تصنيفها كخيال علمي، وهي تفضل عموما تصنيف رواياتها كخيال تأملي يتفاعل القارئ عبره مع ما يحدث خارج جدوله الزمني ومكانه على الأرض.
وهنا يتصدى نظام غيلياد لكارثة بيئية تحل بالمجتمع وتهدّد بانقراضه نتيجة للتلوث، ويمكننا أن نتصور أسبابها، أما الأسلحة أو مخلفات المواد الكيميائية التي لوثت المياه، وأدّت إلى تدني نسبة خصوبة المرأة والحل يكون بتجنيد نساء سبق أن أنجبن لغرض التكاثر. المرأة هنا ملك الدولة، كما حدث في فترة حكم تشاوتشيسكو لرومانيا، حين فرض قانون «الحمل الإجباري» على النساء وأعلن إن الجنين ملك للدولة. تخضع الخادمات وفق التصنيف لتدريب قاس من قبل مربيات مؤمنات بفكرة «غيلياد»، مستمتيات في إخلاصهن من أجل بناء هذا المجتمع. الهدف من التدريب هو الطاعة التامة ومسخ شخصياتهن تماما، لتقتصر وظيفتهن في النهاية على الإنجاب. الخادمات لسن سوى حاضنات في النهاية، سعيدات بالدور الذي كلفن به، ولا تتعدى حيواتهن اليومية مشوار التسوق بمرافقة الرقيبات وحضور التدريبات، خلافه ينتهي بهن المطاف بتوظيفهن كمومسات أو تتم تصفيتهن. لا يخلو صوت أتوود من حسّ السخرية في مقابلاتها الأخيرة لاتهامها بالمبالغة والسوداوية، وهي هنا وكأنها تؤكد جهلنا لما يحدث من حولنا، ويا لقصر ذاكرتنا! الذي حدث قبل مئة عام، قبل خمسين عاما يتكرر، يحدث اليوم، وهي تستعرض عشرات الوقائع والأحداث والإحصائيات التي تدلل على صدق ما كتبته. عقوبة القتل في ثلاث عشرة دولة بتهمة المثلية الجنسية. عقوبة الرجم ما زالت نافذة أيضا وذلك ما رأيناه في أحد المشاهد لامرأة عاقة عبر المسلسل. وماذا عن النظام البعثي الفاشي الذي عشناه ونعيشه، هو الآخر لَمْ ولا يختلف عن نظام الديكتاتور تشاوتشيسكو، الذي أفلح في تجنيد ربع سكان رومانيا خلال خمس وعشرين سنة للعمل في المخابرات والأمن والتجسس، كما أفلح في عزل البلد والتعتيم الكلي للمعلومة من أجل تجهيل الإنسان وتدمير عقله وتشكيله من جديد. كل هذا يدلل على واقعية غيلياد.

من أورويل إلى أوتوود

1984 هو العام الذي أنهت أتودد فيه كتابة الرواية يقودنا إلى رواية جورج أورويل «1984» وليس المقصود هو الرقم، بل رصد الأنظمة الشمولية والآلية التي تعمل وفقها، سواء كانت منطلقاتها دينية أخلاقية أو علمانية أو إلحادية، كل الأفكار يمكن قلبها وتوظيفها لصالح النظام، فاسرائيل تريد من الحرب السلام و»داعش» أو الفكر الأصولي يرى في الحرية وحقوق الإنسان كفرا ونجاسة، وما ابتلي به الإيزيديون والمسيحيون مؤخرا، إنما يؤكد على تماثل عقلية أصحاب العصمة في غيلياد وسعيهم لفرض أيديولوجيته بشتى الوسائل. ومن منا لا يعرف ما حدث وما يحدث الآن عبر السياسات الثيوقراطية (أحد الشعارات التي رددها العراقيون باسم الدين باكونا/سرقونا الحرامية). كما منعت غيلياد القراءة وتبادل الكتب وأضرمت النار فيها لأن في الجهل أمانا. اشتغل فريق العمل بذكاء باختياره الرواية التي سبق أن تم إنتاجها فيلما ومسرحا وأوبرا. هناك حرفية في كتابة سيناريو المسلسل وإبراز أهم أحداث الرواية فيه. غرابة المشاهد تعكس إبداعا أمدنا بمتعة كبيرة في متابعته، ولعلها تكمن في منحنا الحق بما نفكر به فهناك من يشاركنا الرأي؛ عالمنا مريض ومجنون والإنسانية مدحورة فيه! ورغم أننا نستعيد وعينا للمسافة التي تفرضها الشاشة تسري فينا رعدة، خوف وفزع لا مفر منه لشعور يائس بحقيقة ما نشاهد، كواليسها الواقعية تحاصرنا كجزء من الأجواء العالمية التي نعيشها باختلاف ثقافاتنا. هذا العالم المظلم الوحشي المخيف ونظامه الآخذ بالرجعية هو واقع فعلي كما تذكر مارغريت أتوود، وحقيقة أن الله موجود في كل شيء، نعم هذا صحيح ولكن الشيطان كذلك، كما تقول.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى