في سلوفينيا.. شعراء برتبة «عسس حدود» يخرجون من «غابات مقدسة»

سعيد خطيبي

كان الشاعر السلوفيني بوريس نوفاك (1953) يقول متحسرا: «أن تكتب بلغة لا يفهمها أكثر من مليوني شخص فأنت كمن يكتب للفراغ». ولأن الفراغ يطغى على الضجيج في سلوفينيا فإن «الصمت يصير لغة لا يفهمها الآخرون» يضيف. السلوفينية ليست مجرد لغة أو عنصر من الهوية، بل هي أكبر من ذلك، إنها قضية سياسية، سلاح مقاومة، مسلك التحرر، هي الهوية نفسها، فالبلد كله تأسس على العنصر اللغوي، لا يربط بين الشعب السلوفيني أكثر من اللغة، هذا «الوطن» وُلد من لغة مشتركة وليس من حروب مكررة، هكذا تصير اللغة، ومعها الأدب (خصوصا الشعر) مسألة حساسة، مسألة بقاء، والشعراء ليسوا مجرد طبقة عادية من الكتاب، بل هم عسس الحدود، أو في مرتبة «الرهبان» كما قال توماج شالامون (1941- 2014)، يخرجون من «غابات مقدسة»، حاملين «اللغة» على أكتافهم، مثلما كان يحمل المسيح صليبه..
من النادر أن نجد بلدا ينتصب فيه تمثالان اثنان للشاعر نفسه، لا يفصل بينهما أكثر من أربعين كيلومترا، كما هو حال الشاعر فرنسي بريشرن (1800- 1848) الذي غالبا ما يُختصر في كونه كاتب النشيد الوطني لسلوفينيا، لكنه أكبر من ذلك، فهو واحد من مجددي اللغة، أو بالأحرى هو من رفعها من لغة ارتبطت كثيرا بالمعتقد الديني إلى لغة أدبية بامتياز. هو من وجوه الرومانسية الأوروبية، أعاد تجديد القصيدة شكلا وإيقاعا. رغم أنه عاش متأثرا بالشعرية الألمانية، فقد أوجد لنفسه، في السنوات الأخيرة من حياته، حساسية مختلفة، تظهر في نصوص له كتبها (وقد نشرت أعماله بعد وفاته في ثلاثة مجلدات كاملة). رغم أنه أكمل تكوينه الأدبي والمعرفي في فيينا، فقد خاض خيارا مختلفا، سيستمر مع أجيال من الشعراء من بعده، فهو لا يقسم القصيدة إلى وحدات سلابية (كما في الشعر الألماني أو الفرنسي)، بل إلى وحدات أخرى هجينة: نغمة ـ سلابية، أي هو مزج بين التقسيمين الشعريين الألماني والإيطالي. هذه الخصوصية في الشعر السلوفيني كان لها أثر في كتابات استمرت حتى بدايات القرن الماضي، لكن الإشكالية تظهر عند كل محاولة ترجمة شعر أجنبي آخر إلى السلوفينية، حيث المعايير والوحدات ستختلف، وتحت تأثير الترجمات ـ نظرا لحركة الترجمة النشيطة في البلد ـ أخذت أشكال الشعر السلوفيني تتعدد وتنفتح، بعدما عاشت طويلا تحت تأثيرا كتابات فرنسي بريشرن.
من المهم التوقف ـ قليلا ـ عند حالة فرنسي بريشرن، لأن حياته وتجربته تعكسان جزءا من التحولات الأدبية، التي عرفها البلد، فهو بدأ قارئا لفرنشيسكو بتراركا (أي كلاسيكيا) وانتهى شاعرا من موجة الرومانسية الألمانية (متأثرا بأوغست شليغل)، قبل أن يعود إلى الكتابة بلغته الأم. هو صورة مصغرة من التقاطعات الإيطالية الألمانية في بلده، لم ينحز لأي منها، بل مزجها ليصنع منها هوية شعرية مستقلة له. كانت كتاباته مأخوذة من تجارب شخصية، عن نساء عرفهن، مثلما كتب عن «أورشكا»، التي كان يعتقد أنها أجمل نساء ليوبليانا، كان يصفها ﺑ»نجمة الصبح»، قبل أن تغرق في نهر ليوبليانتيسا، ويرثيها في نص «سيد الماء»، كما كان يكتب أيضا، بشكل مُبالغ فيه أحيانا، عن كل الأشخاص الذين عرفهم أو التقاهم ـ ولو بشكل سريع ـ ثم رحلوا عن عالمه. كان متأثرا بفكرة الموت. ترك بريشرن نصوصه الشعرية، التي كانت منشورة في جرائد ومجلات، قبل أن تجمع في مجلدات، مات قبل أن تولد الجمهورية، ليصير ـ لاحقا ـ أيقونة شعرية، في البلد، ويصير يوم وفاته (8 فبراير/شباط) يوما للثقافة، وعطلة مدفوعة الأجر، في سلوفينيا.
أولى النصوص التي كتبت باللغة السلوفينية تعود إلى القرن العاشر ميلادي، كتبها رجل دين: بريموش تروبار (1508- 1586)، الذي قام بتوحيد كل اللهجات، في البلد، دمجها في لغة واحدة ووضع قاموسا لها. لكنها ظلت لغة مرتبطة أكثر بالكنيسة، ولم تتحرر سوى بعد قرون من ذلك، ويمكن القول إن بريشرن هو من رفعها إلى لغة أدبية مكتملة، لتتواصل من بعده تجارب أخرى مهمة شعريا. بعد رحيل بريشرن، حصل الانتقال الطبيعي، من الرومانسية إلى الواقعية، وكان من المنطقي أن يتراجع الشعر لصالح النثر، لكن بعد الحرب العالمية الأولى، عاد الشعر مجددا، مع التجربتين الرمزية والمستقبلية، ثم جاءت السريالية متأخرة. في هذه الفترة سيظهر أوتون جوبانشيش (1878- 1949)، الذي كلف نفسه مشروع قيادة الحركة الحداثية، في سلوفينيا، برفقة كل من إيفان سانكار، الذي سيهجر الشعر ويتفرغ للمسرح، وجوسيب مورن. سيلتحق بهذه المجموعة، شاعر شاب، لم يعش أكثر من 22 عاما: سريشكو كوشوفيل (1904-1926)، يحلو للبعض أن يسميه «آرتير رامبو» الشعر السلوفيني، كان رائيا، ورافضا للشعرية الكلاسيكية. لكن الأصح أنه كان شاعرا تراجيديا، عاش حياة وجودية قصيرة، تظهر في كثافة لغته الشعرية وفوضويتها أيضا. في «نادي 22» سنجد شاعرا آخر، مات في السن نفسها، لا يقل أهمية عن كوشوفيل وكان ـ للمُصادفة ـ متأثرا به، هو: فرنسي بالانتيش (1921-1943). الذي مات إبان الحرب العالمية الثانية، ومنعت لاحقا أعماله، في سلوفينيا، بسبب مناهضته للشيوعية (رغم أن كتاباته لم تتورط في خياراته السياسية)، لكن أعيد له الاعتبار، في السنوات الأخيرة الماضية. من المهم أن نشير إلى أن الحرب العالمية الثانية لم تفرز فقط نتائج سياسية، بين منتصر وخاسر، في البلد، بل قسمت الشعراء إلى فريقين، وخلقت عداوات بينهم، وتصفية حسابات، ما أدى إلى التعتيم على كثير من الشعراء، بسبب ميول سياسية معينة لبعض منهم، أو بسبب قربهم أو تعاطفهم مع النازية، في لحظة من لحظات حياتهم.
بحكم موقع سلوفينيا، في وسط أوروبا، كان من الطبيعي أن تتأثر، في منتصف القرن الماضي، بالحركة التعبيرية، في الفن التشكيلي وفي الشعر (ميران ياريتس مثلا).
إلى جانب ذلك، من الأسماء الشعرية المهمة، التي أفرزتها مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: إدورد كوسبيك (1904-1981)، هو واحد من الشعراء الملعونين، الذين عجزوا على إيجاد موقع واضح لهم، اشتهر أولا بمعارضته للكنيسة الكاثوليكية (التي كانت لها سطوة واسعة) بعد مواقفها المهادنة لفرانكو أيام الحرب الإسبانية، ثم وحد الأنتلجنسيا المسيحية الاشتراكية، وقاد جبهة مقاومة الفاشية، ليصير عسكريا، ثم واحدا من الشعراء ومن الشخصيات السياسية البارزة في البلد، بعد التحرر. لكن سرعان ما وجد نفسه معزولا مرة أخرى، بسبب كتابات له ناقدة للشيوعية، ثم جُرد من كل المهام ومن الامتيازات بسبب مجموعة قصصية أصدرها بعنوان: «الخوف والشجاعة» (1952)، تحدث فيه عن تجاوزات الشيوعيين خلال الحرب العالمية، ليتم حجزه في إقامة جبرية – بأمر من الماريشال تيتو ـ وهي فترة كرسها لاستكمال كتاباته الشعرية، وكان – حينها – يكسب عيشه فقط من ترجمة أهم الكتاب والشعراء الفرنسيين إلى السلوفينية.
فترة الاشتراكية، والهيمنة اليوغوسلافية على البلد، التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، كانت من أسوأ الفترات، نظرا لما عرفته من تضييق على الحريات، ومن رقابة على الكلام والكتابة، ووجب على الشعراء السلوفينيين، أن يبتكروا قاموسا خفيا، وكلمات مُراوغة، أن يكتبوا بلغة غير مباشرة، تجنبا لحرس النوايا وشراسة الشرطة البوليسية. ظهرت بعض الكتابات العدمية (إيفان ميناتي مثلا). وتجنبا للرقابة أيضا، ظهرت حركة شعرية إيروتيكية، ستتطور ـ تدريجيا ـ وتبلغ النضج، في الثمانينيات خصوصا، ويعد الشاعر بران موزيتش (1958)، واحدا من أسماء الإيروتيكية الشعرية، حيث لا تخلو نصوصه من مدائح الجسد واللذة. وربما هو الشاعر السلوفيني الوحيد الذي حظي بترجمات للعربية (صدرت في جرائد ومطبوعات، لكن عن لغة وسيطة وليس مباشرة من السلوفينية)، وما يزال هناك شعراء آخرون، يستحقون أن يصلوا إلى العربية (مع العلم أن شعراء العربية مترجمون للسلوفينية، من أبي نواس إلى محمود درويش)، خصوصا منهم توماج شالامون، الذي يمثل «قطيعة»، في الشعر السلوفيني، لم يبد تأثرا بسابقيه، وخلق لنفسه فضاء متخيلا يختلف عن كتابات مواطنيه، القدامى منهم أو الجدد، يتجلى ذلك في نصوص له، مثل: «سأرسم صليبا»، «أطفال ميتون»، «أربعة أسئلة عن الكآبة» و«قياس الوقت». بدون أن ننسى شاعرا مهما آخر: بوريس نوفاك، خصوصا في مجموعتيه المهمتين: «بستاني الصمت» (1990) و«سيد الأرق» (1995)، وهو شاعر يحاول أن يمنح «المعنى» إيقاعا ويجعل للإيقاع معنى، وهو شاهد على انهيارات يوغوسلافيا سابقا، وبدون ما كان يحصل في نصوصه الشعرية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى