إدريس الملياني: لا يمكن للشعر أن يموت إلا بموت الإنسان نفسه

عبد اللطيف الوراري

إدريس الملياني؛ شاعر مغربي تمتدّ تجربته لأكثر من أربعة عقود لم يكفّ عن تطويرها باستمرار. منذ الستينيّات وهو هنا، عينه على الجمال، وفي طرف لسانه قصيدة على الأهبة والسعة. إدريس الملياني دائما ما كنْتُ أنعته بالشاعر المغربي بحقّ، وذلك لأنّك تجد في شعره ملامح وأيقونات وروائح من المكان المغربي، والأسطورة المغربية، والطبع المغربي السمح الرقراق، من دون أن يعني ذلك أنّه أسير رؤية «هوياتيّة» مغلقة؛ فالشاعر منفتح ومتسامح، ومُطّلع على ما يكتبه الآخر الشعري، ومتفاعل مع أحداث عصره، بلا مطلق ولا متعاليات.
وهو، عدا عن طيبوبته وقفشاته الخفيفة وميله إلى الاستمتاع بالحياة، شاعرٌ مشّاء. يمشي في الشارع العام تثيره هذه الشجرة أو تلك الفكرة، متأبّطا صحف اليوم التي لم تعد تروقه، وعلى طرف لسانه آتيٌّ من الشعر والنثر، وأحيانا تصلك دندناته الموقّعة رغم بؤس الثقافة في زمننا، وتبرُّمه من رجال الحال، ومن دار لقمان التي ما زالت على حالها. سألتُهُ إن كان راضيا عن نفسه وشعره بعد هذه السنين الطوال التي عاشها شاعرا وشاهدا: «هل أنا راضٍ؟ الجواب لا يمكن أن يكون إلّا بالنفي. لستُ راضيا، فما كنّا نحلم به سعينا إلى التعبير عنه، ولكن عندما نقرأ ما عبّرْنا عنه نجده قاصرا ودون ذلك الحلم. فالإنسان لا حدود لآفاقه وأبعاده، إذ هو دائما يريد أن يتجاوز ذاته ليعانق ذاته الأخرى، الحقيقية. إنّه مُقسّمٌ بين ما هو عليه الآن وما يحلم أن يكونه. أنا أحلم أن أكون مستحيلا، وقد كفّ رامبو عن كتابة الشعر لمّا عجز عن التعبير عن هذا المستحيل الإنسان مادّي بقدر ما هو ميتافزيقي. ومع ذلك، المستحيل نُحقّقه فورا، أما المعجزات فلا تحتاج إلا لوقت قليل جدّا لتصبح منجزات، كان هذا مما تعلّمتُه من حُبّ موسكو التي لا تؤمن بالدموع».

وهم الريادة وحرج التجييل

يُجْمع الدارسون للشعر المغربي الحديث على أنّه واحدٌ من أهمّ رواد القصيدة المغربية الحديثة، إلا أنَّ أكثرهم يحار في تصنيفك أجياليّا وفقا لما درج عليه الدرس النقدي في تقسيم تاريخ الشعر إلى أجيال، منذ الستينيّات إلى اليوم. سألته: هل أنت ستّيني أم سبعيني؟ فأجاب على البديهة: «هذه الحيرة آتية من أنّنا ـ أنا والبعض من أبناء جيلي ـ كُنّا بين مطرقة وسندان، أي بين مطرقة الشعراء الروّاد المؤسِّسين والمكرِّسين والمدرِّسين لحداثة الشعر المغربي من أمثال أحمد المجاطي المعداوي ومحمد السرغيني وعبد الكريم الطبال ومحمد الميموني ومحمد الخمار الكنوني وأحمد الجوماري، وبين سندان الشعراء ما بعد هؤلاء الروّاد؛ بمعنى أنّنا وسطٌ لا نحن من المؤسّسين، ولا نحن من جاء بعدهم من روّاد الحداثة». ولهذا، فهو لا يثق في مصطلح المجايلة، «لأنّ الشعر ـ في نظره ـ لا يُقاس بمثل هذا الزمن، إذ يمكن للجيل أن يستغرق وَقْتا أطول أو أقصر»، ثم إنّ حركة الحداثة في الشعر مستمرّة ولها شروط سوسيوتاريخية.
يقول إدريس الملياني: «في اعتقادي، فإنّ المجايلة مصطلحٌ إجرائي؛ فتصنيف الشعراء إلى أجيال ـ كما درج عليه النقّاد في المشرق والمغرب على السواء ـ هو بمثابة تحقيبٍ عِقْديٍّ تسهيلا للتصنيف، لكنّه يبقى غير سليم وناجع، لأنّ الشعر لا يُقاس بمثل هذا الزمن، إذ يمكن للجيل أن يستغرق وَقْتا أطول أو أقصر. هناك مجموعةٌ من الشعراء في تراثنا الشعري العربي حداثيُّون ومتقدّمون في رؤيتهم الشعرية، مع أنّهم موغلون في القدم، من أمثال المتنبي وأبي نواس وأبي تمام وبشار بن برد وطرفة بن العبد الذي يبدو لي كشاعر أوروبّي. إنّ أولئك الشعراء من نهاية الخمسينيات إلى بداية الستينيات، كانت مرجعيّتهم واحدة، فكلُّهم يقول إنّه قرأ شعراء الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية وأبولو والشابي، وقرأ شعراء الإحياء كأحمد شوقي والبارودي ومن حذا حذوهما، وتأثّر بالغناء العربي، واطّلع على الرواية العربية والسينما والفكر السياسي البعثي والناصري القومي، والأدبيّات الماركسية، كما انجذب إلى حركات التحرُّر العالمية في فيتنام وبلدان أمريكا اللاتينية، إلخ. لقد امتزج كلُّ ذلك وأتَّر في مسار الشعر الحديث. أما الريادة فقد شبّهتُها بـ(سرير بروكست) الذي يتّسع ويضيق بحسب الهوى الحزبي والأيديولوجي والشخصي، إذ صار كلُّ شاعرٍ ينسب لنفسه أو تنسب له قيادة الريادة في الشعر المغربي الحديث مثل هذا الثلاثي أحمد المجاطي ومحمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني، ويُضاف إليهم – على استحياء- آخرون من أمثال أحمد الجوماري وأحمد صبري ومحمد علي الهواري، وكذلك عبد الإله كنون الذي لم يصدر ديوانا، إذا لم يخني ظني، لكن قرأتُ له نصوصا جميلة».
وعن جيله، يقول: «إذا تحدّثتُ عن جيلي، فإنّ ضِمْنه شعراء يقعون بين جيل المؤسّسين الأوائل الذين ظهروا منذ منتصف الخمسينيّات، ومن تلاهم من الجيل الذي عُرِف بشعراء السبعينيّات، وأهمّ هؤلاء الشعراء محمد الشيخي ومحمد عنيبة الحمري ومحمد بندفعة وأحمد بنميمون ومحمد بنطلحة وعبدالله راجع وأحمد بلبداوي والمهدي أخريف وعلال الحجام ورشيد المومني ومالكة العاصمي وحتى محمد بنيس نفسه؛ إلا أنّه – مع ذلك- جيلٌ واحدٌ، جيل القصيدة التفعيليّة، فالماء الذي سبح فيه واحد والنّار التي اكتوى بها هي نفسها، في حين يشكّل جيل الثمانينيّات بداية انطلاق جديدة لقصيدة النثر في المغرب».
كثير من شعراء السبعينيات، أو كما يسميهم عبد الله راجع بـ(شعراء الشهادة والاستشهاد)، قدموا من تجارب جديدة تولّدت عن وعي فكري وأيديولوجي أكثر منه آنيّا وعابرا؛ فمنهم من بقي منتصرا لنهجه التحرُّري في الالتزام بقضايا المجتمع المغربي، الذين كان يمرّ بفترة عصيبة، بعد اشتداد سنوات الرصاص، ومنهم لم يُنْسِهم عُرام الأيديولوجيا أن يواصلوا مشروع تحديث شكل القصيدة التفعيلية ولغتها، والانفتاح على المدونة الشعرية الحداثية، كما سعى لفيف منهم إلى مفهوم جديد للكتابة الشعرية عبر مشاريع «القصيدة الكاليغرافية» التي تنبني على التنوُّع السيميائي للخطّ، وتبئير علامات الترقيم وتنويع الأشكال البصرية.

الشعري والأيديولوجي

كان هذا الجيل يقطع إلى حدٍّ ما مع اقتراحات الجيل الذي سبقه، فيما هو يقترح جماليّات جديدة كشفت وعيا جديدا بالمسألة الشعرية، بعد أن تجاوزت عتبات التحديث الشكلي، وأولت البعد الفكري مرتبته الخاصة جنبا إلى جانب البعد الجمالي، إلا أن النقد لم يبحث هذه الجماليات على تنوّعها واختلاف مشاربها عند الشعراء كما ينبغي؛ لأنه كان ـ في نظر الملياني- «محكوما بالهوى الحزبي والسياسي والشخصي». وهذا النقد لا يزال إلى اليوم، قائلا: «هناك قبائل صيّرت الشعر ذا نزعةٍ قبليّةٍ، وهو ما أسمّيه النقد الطائفي، الذي ينتصر لمذهب أو نزعة ما، لا علاقة لها بالشِّعر نفسه. وفي هذا الإطار، كان هناك بعض الشعراء مرتبطون رمزيّا بأحزابٍ ومشاريع حزبية». وأضاف بنبرة لا تخلو من اعتراف: «كلُّ هذا، في نظري، كان يتمُّ خارج الشعريّة. حتّى أنا ضحّيْتُ بنفسي وفاء لالتزامي الحزبي والسياسي والأيديولوجي داخل حزب التقدم والاشتراكية، الحزب الشيوعي المغربي سابقا. إنّني كنْتُ متحرّجا ومنزعجا من هذه الازدواجية في شعري، بمعنى كيف أكون وفيّا لما هو حزبيّ وأيديولوجي، أو نضالي، بمقدار ما أكون وفيّا لما هو فنّي وجماليّ في الشعر. هذه الحيرة هي ما عبّر عنه الشاعر الروسي نيكراسوف في هذا المقطع الشعري: «لست ملزما بأن تكون شاعرا، ولكن أن تكون مواطنا، فذلك هو واجبك» إنّني لا أتنكّر لما هو أيديولوجي بالقدر الذي لم أَنْسَ فيه همّ التجديد الفني والجمالي في ما أكتب من شعر، بل عملْتُ، باستمرار، على أن أتخفّف ممّا هو أيديولوجي لحساب الشعريّة، وهو ما جعل القرّاء والنقاد يُقْبلون عليه أو يتواصلون معه. إن السياسي يُغْني التجربة الشعرية، وتارة أخرى قد يفقرها ويجني عليها. ولكم نصحتُ الشعراء الشباب أن يكونوا حذرين في كتاباتهم من أيّ مرجعية سياسية أو حزبية، وأن يكونوا مخلصين لنداء الشعر الذي لا يُخيّب أملا، ولا يخذل».
وإذا وقفنا على ما يميّز تجربة إدريس الملياني، من حيث المضمون، فإنّه انتقل – تدريجيّا – من الالتزام السياسي والاجتماعي المباشر الذي ارتبط بتجربته الحزبية والأيديولوجية، إلى الالتزام الإنساني الذي تغدو معه ذات الشاعر بوعيها الفردي- الجمعي معبرا لقول الحقيقة والصدع بها. وفي هذا الصدد، لم يكن تطوير المعنى الشعري عنده يتمُّ خارجا، أو يشفُّ عن سيرورته لولا هذا الانشغال نفسه الذي يتمُّ على صعد أسطرة الذات واللغة والبناء النصي، فضلا عمّا نلاحظه من اهتمامٍ عالٍ بالإيقاع الشعري وبنائه، قلّما نجده عند مجايليه أو من جاء بعده ليس في الشعر المغربي فحسب، بل في خريطة الشعر العربي المعاصر. يقول إدريس الملياني: «أوافقك الرأي تماما، ولكن أخشى أن لا أكون في مستوى ما تقول. إنّي أحلم أو أفرح لمّا أسمع مثل هذا التأويل منك ومن النقّاد الآخرين، وأتساءل بيني وبين نفسي إذا ما كنت كذلك. لكنّي أشعر، بعد هذا المسير الشعري الطويل، بأنّي تخلّصتُ، إلى حدٍّ كبير، من العبء الحزبي والأيديولوجي وتبعاته، وأخلصتُ لما هو فنيٌّ في الشعر بما يُشْبه واجبا جماليّا، وذلك اقتداء، لا اقتناعا، بشعراء مثل محمود درويش الذي جمعتني به ذكريات لا تنسى، في موسكو والمغرب، إذ أخلص للشعر وحده، بعد أن تخفّف شعره من عبء الأيديولوجيا، واستقال من المسؤولية داخل منظمة التحرير الفلسطينية حتى لا يسيء إلى فنّه، ولا إلى واجبه الفلسطيني كمثقف عضوي ورفيق مقاوم أممي وإنساني. لم يكن يخفي هذا الجانب المضيء من شخصيته الاجتماعية ونصّيته الإبداعية مثل بعض كاتميه. وبالتالي، لن أحيد عن هذا الجمع المبدع والممتع بين الجمالي والنضالي».

شعر إيقاعي وكتابة تناصية

ولم يتخلّ الشاعر عن شرط الوزن في كتابته الشعرية؛ وظلَّ وفيّا لأولوية الإيقاع في بناء قصيدته؛ فهو يحتفي بالإيقاع أيّما احتفاء، حتى إنّنا نسمي الشعر الذي يكتبه «شعرا إيقاعيّا»، أو شعرا «بملء الصوت» حسب تعبيره. لا ينفصل بعد الإيقاع لديه عن الدالّ العروضي وزنا وتقفية وتشطيرا، لكن لا يتقيّد به خالصا، بل يُفجّره ويتسلّى معه تصويتا وترقيصا وتسجيعا. وتنقسم الجملة الإيقاعية في معظم شعره إلى نوعين رئيسين: جملة إيقاعية قصيرة تتحرّك سطريّا وتنتظم فيما بينها عبر قوافٍ متوالية ومتناوبة؛ وجملة إيقاعية متوسّطة مدوَّرة تدويرا جزئيّا يستغرق مقطعا بكامله داخل القصيدة، تتخلّلها قوافٍ داخلية ومتوازية قبل أن ترسو على قرار قافية تتجاوب مع قافية المقطع الموالي في الرويّ نفسه. وتتحرّك هذه الجمل، عروضيّا، داخل أوزان البحور البسيطة، وهي: الكامل، الرجز، المتدارك، المتقارب والرمل. كما تنشدُّ في تكوينها الإيقاعي إلى حركة المعنى وسجلّاته الأسلوبية، فيتلوّن الإيقاع، صعودا وهبوطا، بحسب أفعال الكلام المتنوّعة (نداء، أمر، استفهام، هزل، حماسة، تهكّم، إلخ)، بمقدار ما تكشف فيه عن ثراءٍ لغويٍّ واهتمامٍ عالٍ بآليّات التقفية والتوازي والتكرار والترجيع. إلى ذلك، يشغف الشاعر باستخدام صوتيّات رمزية ذات بعد ترتيليٍّ أو طقوسيٍّ أو باروديٍّ يمتحها من السجلّ المغربي (المحلّي- الأمازيغي).
إنّ في مثل هذه الإيقاعيّة ما يوحي بأنّنا بصدد غنائيّة صرف في شعر الشاعر، لكن هذا الأخير يعرف كيف يُكسّرها أو يحدّ من بعدها الغنائي عبر توظيفه لآليّات التناص مستدعيا الأساطير والرموز والشخصيات والوقائع من عصور سابقة ومن عصره نفسه، ومُعيدا دمجها والتفاعل معها في بنية النص الحاضر، بقدر ما يحفزه ذلك للانفتاح على أشكال السرد والحوار والمونتاج والمشهدية، وهو ما يسم قصيدته في كثيرٍ من نماذجها بسمتٍ غنائيٍّ، دراميٍّ وملحميّ. ذلك ما نلمسه بشكلٍ أجلى في دواوينه: «زهرة الثلج» (1998)، و»مغارة الريح» (2001)، و»تناريت: ألواح أمازيغية»، و»بملء الصوت» (2005). وإذا مثّلنا بديوانه «نشيد السمندل» (2009)، فإننا نجده ينفتح على مُدوّنة الشعر العربي القديم والوسيط (الممزَّق العبدي، النابغة الذبياني، عمرو بن براقة الهمداني، ابن جاندار، ابن فركون، حنا الأسعد)، أو الحديث (محمود درويش، محمد بنعمارة، محمد علي شمس الدين)، وعلى المرجع الثقافي الروسي (الأيقونة الفلاديميرية، الشمس الحمراء، بيريوزْكا، سْفيتْلانا، سيبيري التاج، أوكا)، مثلما ينهل من تمثيلات أسطورة الموت والبعث والتجدُّد والخصب (عشتار، أورفيوس، إيلِيّا، بعل)، ويُحيل على القرآن الكريم والحديث النبوي والكتاب المقدس، وينثر سجلّاتٍ من اليومي المغربي المعاصر ومعمعته شَذْرا وسُخْرا، من جهة أخرى؛ وذلك تبئيرا لقناع (السمندل) الذي يتّخذه ليس رمزا اِستعاريّا بانيا في صلب العمل وحسب، بل يرتفع به إلى مستوى أسطورته الشخصية بسبب ما تعانيه الذات على المستوى الشخصي والجماعي.
وضمن المراجع الكتابية التي يعود إليها الشاعر ويعتمدها، نجد المرجع الروسي؛ فقد عاش أيام الاتحاد السوفييتي في موسكو، حيث نزل بالغرفة التي بها قبله محمود درويش، وتشرّب شعره وأدبه، إلى حد أن أقدم على ترجمات من عيونه، فترجم نصوصا لشعراء روس ضمن «بستان الشعر العالمي» (2010)، و»العمق الرمادي: سيرة ذاتية مبكرة» ليفغيني يفتوشينكو (2005)، وروايتي دوستويفسكي «الليالي البيضاء» و»زوجة رجل آخر وزوج تحت السرير» (2016).
يقول عن هذه الترجمة ودافعه إليها: «ولد لديّ هذا الميل لترجمة الشعر الروسي، عندما بدأت أتعلم اللغة الروسية، أول مرة في المركز الثقافي السوفييتي في الرباط، خلال السبعينيات، ثم تعمق هذا العشق الروسي أثناء الدراسة في موسكو، في نهاية الثمانينيات، وأخذت أقرأ بها نصوصا أدبية وشعرية كنت قد اطلعت عليها مترجمة إلى العربية. فلاحظت منذئذ أنّ بعضا من تلك الترجمات العربية تحيد كثيرا عن الأصل الروسي، لتحقق بالفعل مقولة (الترجمة خيانة). ومن ذلك على سبيل المثال أن أحد المترجمين والكتاب العرب لم يميز في إحدى الأقاصيص أو الأناشيد الرومانتيكية الغوركية، بين كلمة «أوجط الروسية التي تعني حية غير سامة وبين كلمة «يوج» التي تعني قنفذا، فوقع ضحية هذا الجناس الروسي. وعندئذ تجاسرت على الترجمة الأدبية، الهاوية والعاشقة، التي كان حبي الأول فيها قصيدة «انتظرينيط للشاعر والمراسل الحربي والروائي المعروف عربيّا قسطنطين سيمونوف. وهي في شهرتها تضاهي أو تعادل «سجل أنا عربي» لشاعر المقاومة الفلسطينية محمود درويش، أو «إذا الشعب يوما أراد الحياة» للشابي. وتعد من عيون الشعر الروسي ولا تزال جارية على كل لسان منذ كتابتها عام 1941، مع بداية الحرب الوطنية العظمى ضد الغزو النازي إلى اليوم. ولا تخلو ترجماتها العربية العديدة من أخطاء، إذ ترجمها أحدهم «انتظرني» بدلا من «انتظريني» لو اطلع على الأصل الروسي».
وعن أهم خصائص الشعر الروسي التي راعته، قال: «إنّه استطاع في حيز زمني وجيز أن يحافظ قبل كل شيء على «الطبع الروسي»، وأن يستوعب التراث الإنساني، الغربي والشرقي، ومنه العربي الإسلامي، والأمازيغي المغاربي، وأن يترجم ما لا يحصى من آداب الأمم والشعوب، وأن يدرسها بمناهج علمية وبرؤية نقدية وندية وودية، وأن يتأثر بها ويؤثر فيها، وأن يخلق عبقريته الأدبية والشعرية ذات الجمالية الكلاسيكية الحديثة والقومية العالمية والإنسانية باستمرار الحياة».

الشعر هو الإنسان

وبما أنّ الشاعر عاش حياة عريضة، ووجد أنّه يحتفظ بخزين من القصص والمشاهد وأحوال الحياة، فقد مال إلى السرد، إذ كتب محكيات «فتاة الثلج» (2011)، وروايتين متتاليتين بعنوان: «ماتريوشكات: عرائس روسية» (2015) و»كازانفا» (2016). فسألته: هل يحمل صعود الرواية وإقدام قطاعٍ لا بأس به من الشعراء عليه، معه «موت الشعر» بشكل من الأشكال، قال: «بسبب رواج خطاب ما بعد الحداثة، صرنا نسمع بموت كلّ شيء: الشعر، المدرسة، الكتاب، إلخ. وبالنسبة لي، لا يمكن للشعر أن يموت إلا بموت الإنسان نفسه. إنّه لغة الإنسان، ورؤية الإنسان إلى نفسه وإلى ما يحيط به في هذا العالم.
حتى إن تطوّرت التكنولوجيا، وتطوّر العلم وأصبحت الحياة كلُّها مادّية شرهة ينتفي فيها كلُّ ما هو جمالي وفنّي وروحي، فإنّه ستظلُّ هناك حاجة دائمة إلى الفنّ والجمال؛ لأن الفنّ ضروريٌّ للإنسان من أجل التعبير عن حاجاته المتنامية. وحتى إن زالت أو تحوّلت هذه التناقضات التي تستدعي لغة الشعر للتعبــــــير عنها، فإنّه ســـيكون ثمّة مجال آخر للشعر كالتغنّي بالحياة، وبفرح الإنسان بالحياة، والحبّ والطبيعة.
الشّعر لا يموت، لأنه في جمال الحياة، يُشمّ ويُسمع ويُحسّ ويُلمس في كل مكان وأي زمان، وسيبقى الشعر جمالا ونضالا بالجمال الذي وحده ينقذ العالم، كما قال كاتب «الجريمة والعقاب» لدستويفسكي، لو استجاب العالم طبعا لنداء الجمال الشعري. وإذا لم يجد الشعر غداة غد بعيد ما يناضل من أجله يغدو غناء الإنسان بجمال الطبيعة وحب الحياة والإنسان. ثُمّ إن القصيدة حرّة واثقة من جمالها لا تستبدّ بها غيرة من أي جنس، وقادرة على المجاورة والمحاورة بكل اللغات».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى