عندما ينتحر الكتاب..

خاص(الجسرة)

ولد عبد الله عبد اللطيف

اللغة وسيلة فعالة لقول ما نفكر به . فالكتابة عملية تخاطر تتم بين الأفراد عن طريق هذه اللغة وعلاقة الكاتب بالقارئ منوطة بقوة هذا الرابط من سحر الكلمات ووقع الجمل في العين والأذن. العلاقة بين الكاتب والقارئ مرهونة بمدى تأثير النص ولكنه يأتي في المرحلة الثانية وقد لا تصل النصوص الجيدة إلى القارئ أحيانا. وهذا يرجع إلى عدم تواجد نواد قراءة ودعاية إعلامية لكل عمل يستحق الظهور. ولكن لا بأس أن نكتفي بموضوعنا عن علاقة النص بالقارئ ومدى تأثره بما يقرأ. القارئ أول الأمر عندما يدخل متجرا للكتب سيبحث عما ظالته من الكتب وهو مستعد لأن يدفع مبلغا لقاء عمل أدبي كتب على غلافه رواية بعنوان مثير للفضول وصورة منبهة للحواس. (القارئ يقرأ من أجل المتعة … من أجل الدراسة أحيانا استمتاع ودراسة معا ، لا أحد يقرأ الرواية من أجل لا شيء ) – جايمس.ن. فراي-
القارئ هنا إزاء عقد مع الكاتب ويقول هذا العقد. تشتري كتابا مقابل مبلغ مالي وبالمقابل ستستمتع أو ستتعلم أمورا جديدة حسب ما يدعي الكتاب أنه يقدمه من خلال الدعاية او الغلاف أو حتى العنوان. الواقع أني لا أريد أن أطنب في وصف ما لا يتصف به القارئ العربي ولنكن صرحاء.المقروئية ضعيفة ومتاجر الكتب قليلة لا تسد حاجة المواطن ولو أردنا أن نختصر الكلام فإن العلاقة بين الكاتب والقارئ متأزمة في أقصى حدودها. منها ما يرجع إلى تدني الثقافة وانعدام الوعي ومنها يرجع إلى انخفاض دخل المواطن وارتفاع أسعار الكتب. هناك عدة مشاكل لا يمكن حصرها تعترض الكتاب منذ دخوله للمطبعة حتى وصوله إلى يد القارئ. فلنحرق هذه المرحلة المهمة ولنفترض أن الكتاب وصل بشكل ما إلى يد القارئ العادي. من المفروض أننا حين نفتح كتابا نتوقع منه شيئا حسب نوعه وموضوعه. فهنا تبدأ مرحلة حاسمة من القراءة ويكون التخاطر مباشرا فيشق القارئ على نفسه ويحملها على الصبر ليصل إلى المبتغى من محتوى الكتاب الذي عكف المؤلف بدوره على تهذيب كلماته وتنميق مفرداته بالشكل الذي يسمح بقرائتها . وترتيب أفكاره ضمن تسلسل يسمح بفهم المحتوى بطريقة فنية. يقول بعض الكتاب ” أنا أكتب لنفسي ” وإني لأتساءل إذا كان يكتب لنفسه لماذا لا يترك ما يكتب في الدرج . الحقيقة أن هذه العبارة مظللة وفيها كثير من التخفي والجبن. الكاتب الشجاع هو من يواجه نفسه والقارئ مباشرة . يكتب لكي يواجه ظلم هذا العالم ويتصدى لأعداء الإنسانية. يكتب ليحيى الضمير في قلوبنا . يكتب ليقول لنا أنه مازال يكافح من أجل الدفاع عما يؤمن به في الحياة . الذي يدعي أنه يكتب لنفسه لو أنه فكر أن مآل عمله سيكون الدرج لما صبر على مشاق الكتابة وكلنا يعلم أن الكتابة ليس سهلة وليست في متناول الجميع كما يدعي بعض المتهورين بحماس زائد والذي لن يستمر طويلا حتى يخمد للأبد. الكاتب الجيد هو من يحسب ألف حساب للقارئ ويعيد كتابة عمله أكثر من مرة قبل أن يدفع به إلى المطبعة. المطبعة بالنسبة للكاتب السيء كالمقصلة . فما إن يصدر عمله حتى يكون الأوان قد فات على تدارك أخطاءه والتستر على رداءة عمله. الانتحار بالكتابة يأتي من التسرع والاعتداد الزائد بالنفس . إن التسرع وعدم التروي جعلا من الأدب ينحدر نحو هوة سحيقة جارا معه القارئ إلى قاع بئر مظلمة وسيضطر إلى تغيير وجهته قريبا نحو الآداب الأجنبية . كيف لا وهم لا يجدون ما يرضي حاجاتهم ورغباتهم من كتابنا. وبينما أنا أتابع بعض ما ينشر هنا وهناك على مواقع التواصل الاجتماعي أو الجرائد والمجلات من قرظ .وثناء متبادل بين الكتاب والنقاد بمثابة غش وخداع يمارس علنا. خداع القراء أولا ثم خداع الكتاب لبعضهم البعض ومن الخاسر الأكبر ؟ الرواية العربية بالتأكيد. بل يتعدى الامر إلى أن يصبح عطاء وأخذا .تجارة مبتكرة فاسدة كآلها الكساد . تبادل المديح عبر مقالات أدبية مزيفة لإصار الكاتب الفلاني أو الشاعر الفلاني وكأننا بلغنا قمة الرواية وأصبحنا أرباب السرد في هذا العالم الذي لن يصل للكمال أبدا. تأتي هذه المقالات للأسف في معظمها حسب ميول ورغبة الكاتب الذي نكتب عن روايته وكأنها بذلة خيطت على حسب مقاسه بالضبط. ولذلك شدني الفضول لأن أطلع على بعض ما نشر من روايات صدرت في العامين الأخيرين. وقد وقع بين يدي ثلاث روايات متفاوتة المستوى الأولى هي رواية للروائي سفيان مخناش الذي انتهج أسلوبا شبيها بأسلوب أحلام مستغانمي وإن كان يختلف عنها في عدة أمور ولست أعيب على أسلوبه لأنه في الأخير تمكن من سرد قصته بطريقة بسيطة وسلسة. ولقد راودتني عدة أفكار لدى قراءة هذه الروايات الثلاث كنت سأخرج من قراءتها بثلاث مقالات منفصلة ولكن الكتابة مثل الرغبة الجنسية لا نعرف متى ستكون في ذروتها. ولابد من شيء يثيرها كحسناء تميل لتلتقط شيئا من الأرض وهي ترتدي تنورة قصيرة . هذا ما اتحدث عنه إنه الهم الذي يحرك أعماقنا لنكتب شيئا بخصوص هذا الهم والتخلص منه مؤقتا. لأن الرغبة الجنسية لن تتوقف مادامت الحسناء لم تمل من إظهار مفاتنها. وأنا أقرأ رواية ( مخاض سلحفاة ) لسفيان مخناش بدا لي أنه أحسن في تصوير عمله بشكل واضح وإعطاء قصته سمات الرواية فالقصة من أولها إلى آخرها مفهومة . بل وفق إلى حد بعيد في قول ما أراد. أسلوب الرواية سهل ضمن مسار خطي مستقيم. ما يحصل للبطل أثناء الرواية من خيبة أمل وفشل علاقاته الشخصية مع الآخرين ثم احتفاظه بذكريات عن فتاة ذات أصول يهودية. اما المجد فهو شخصية غامضة بحق ولم تأخذ كفايتها من النضج والظهور كما يجب في بؤرة الاحداث لأن لمجد هو عدو البطل الذي أخذ منه عشيقته ونكل به . أليس من حق القارئ أن يعرف صفات هذه الشخصية وسماتها في التفاعل مع الآخرين. لم يوضح لنا سبب هذا العداء أهي الغيرة ما تجعل من شخص يحتجز شخصا آخر لمدة يومين كاملين وتعذيبه كما يشاء ثم اطلاق سراحه بدون أن نفهم لماذا كل هذا. وهناك أيضا أمر محير وهو موضوع المخطوطات التي يحتفظ بها والد عشيقته والتي لم نعرف لا مضمونها ولا الهدف من تهريبها أو المتاجرة بها. وما هو علاقة حكاية المخطوطات بمسار القصة ككل وما هو تأثيرها على الشخصيات الرئيسية أو هل هي مهمة لتغيير مسار الأحداث ؟ شاركنا البطل صعوده للجبل ورحلته مع الجماعة الإرهابية مكرها. احتجازه وضجره من صديقه المتعصب ومن زوجته المسكينة ثم ماذا تكون المكافئة التي يتحصل عليها القارئ جراء صبره عبر كل هذه الصفحات؟
إن القارئ يتواطئ مع الكاتب بأحاسيسه وخياله متذوقا اللغة وصابرا على مشاق كثيرة منها فهم النص وربط الأفكار بطريقته الخاصة. ولكن يجب على الأقل مكافئته في النهاية بما يجعله يتعاطف أو يحب شخصية ويتعلق بها. شيء يبقى راسخا في ذهنه كتناول قطعة شكولاطة لذيذة ستتذكر مذاقها كل مرة تذكر فيها أسماء الشكولاطة. الشخصية أهم ما في الرواية لأنها مرآة القارئ لنفسه وهو يخوض نفس الاحداث التي تخوضها الشخصية داخل النص ولا يجوز لي أن ألغي كل شيء جميل آخر جاء في رواية ( مخاض سلحفاة ) سأكون مجحفا لو لم أعترف بقوة بعض المقاطع وروعة بعض العبارات والجمل. التي تسهل من عملية هضم النص.
قصة بوذا رغم أنها لم تنصهر كليا داخل قالب الرواية إلا أنها أعطت الجديد ضمن وحدة الموضوع وتسلسل الأفكار . إلا أن المجازفة بإلغاء الوقت كانت برأيي أخطر ما عصف بالرواية وجعلها تظهر داخل جسم هيولي غير ثابت وغير محدد المعالم .فالأحداث تحكى كما اتفق في مكان محدد ولكن في أي زمن ؟ وكلنا نعرف أن الزمن ينظم السرد وهو بمثابة قائد الأركسترا داخل النصوص . غياب الزمن أدخله في ورطة أخرى عليه أن يتفاداها في أعماله القادمة والتي لي الثقة كلها أنها ستكون أروع بكثير من السابقة. الكتابة بأربعة أبعاد أمر مهم وضروري لاكتمال الشكل والمضمون وهو ما يستطيع الانسان العادي أن يراه بوضوح في هذا العالم المليء بأبعاد أخرى متجعدة في نسيج الزمكان.
ان إهمال الزمان والاستمرار في تجاهله سيقضي تماما على أي تخاطر بين الكاتب والقارئ وهذا ما لاحظته في رواية ” تلك المحبة ” للحبيب السائح و” ندبة الهلالي ” لعبد الرزاق بوكبة. فالأحداث تحكى من منطلق حميمي جدا ولولبي حتى يصاب القارئ بالدوار عند التركيز والتعب بعد قراءة عشر صفحات أو خمسين على الأكثر إن كان معتادا على القراءة بشكل مكثف. ففي ” تلك المحبة ” نرى أن الروائي ركز كثيرا على جانب اللغة حتى حاد عن هدف الرواية والذي هو في الحقيقة ما يجعل القارئ يشتري الكتاب من البداية. لأننا لو أردنا تعلم المفردات الصعبة فهناك معاجم وكتب لغوية مختصة . أهمل الحبيب السايح الوضوح واستغرق في ترصيع نصه بالمفردات والتعابير النادرة حتى تكاد النصوص تختنق من شدة التنميق. وإليكم مثالا عن ذلك ” رسموا بعرقهم أثرا لأدرار في جسد الرمل، وكتبوا بدمهم في مائها وصية للرطوبة والإخضرار” ص 13 ويطال الخلل والتكلف كل شيء في الرواية وكأنه يريد إلباس بدوي لم يرى المدينة قط في حياته بدلة سموكينغ بربطة عنق وحذاء إيطالي فاخر ثم يطلب منه أن يمشي كما يفعل براندو في الفيلم. عند التوغل في الأحداث ستختلط الأمور أكثر ونجد أنفسنا في مواجهة المجهول وامام راوية آخر لانعرف كيف تسلل إلى داخل النص ولا كيف تم استدعائه ليكمل الحكاية . فهناك حسين ومرة بنت هندل وأخرى البتول العرافة اليهودية ومرة الطالب باحيدة. كل هذه الشخصية لم تكن مرتبة زمنيا في الحكي ولا فهمنا الزمن الذي تعيش فيه لتروي كل واحدة منها ما يجعلنا نفهم الترابط بينها ومصيرها في القصة. لقد تحدثنا سابقا عن مشكل الثقة بين القارئ والكاتب. القارئ حين يريد قراءة كتاب علمي فهو سيبحث عنه في الرفوف وسيهيئ نفسه لتكلف مشاق الفهم وتحديد هدفه من الكتاب.ولكن عندما يقتني رواية فإن هدفه الأول هو أن يستمتع ثم يأتي بعد الاستمتاع التعلم والاستفادة من مادة الرواية. والشيء الإيجابي الذي ظننت في البداية أنه سيثمر عن عمل استثنائي رائع في رواية ” ندبة الهلالي ” هو اعتماد عبد الرزاق بوكبة على فكرة جريئة وهي أن تكون كل شخصية في الرواية رواية بحد ذاتها متمردا بذلك عن الرواي العليم فيقول على لسان أحد الشخصيات ” ليكن كل واحد منا رواي نفسه ، لكن بشرط ما هو ؟ أن تكون رواي نفسك أيضا” ص-8- ولكن بعد توالي الصفحات سيظهر أنني كنت مخطئا في ظني للأسف فالأمور اختلطت بالفعل لأن الزمن سقط من حساب الكاتب ونلمس نوعا من الشرخ بين النصوص وعدم ترابط الأفكار بشكل صارخ وكأنها مجموعة من الذكريات مدمجة بقوة مع خواطر أخرى لتشكل نصا هجينا لا يفهم معناه إلا صاحبه. وليت الأمر توقف هنا . بل تعدى ذلك أن انسكبت الدارجة على الفصحى لتبلل الوضوح المتبقي من النص . فحتى أنني من نفس بلد الكاتب إلا أني لم أستطع فهم بعض المفردات والتي ستعتم على فهم بعض الجمل. وهذه أحد الأمثلة ” ووراء العينين المرحيتين خيال يستحضردبيب النهار ، ويقذفه في القاموس ، فيشعل صهيل لحصان النحو يطارد فرس الواقع ”
” أرى البرد بنايا يرتعد ” وهل يرتعد البرد من نفسه. نرى في عدة مواضع من الرواية ضعفا في الفكرة والأسلوب المنتهج. حتى وإن كنت مخطئا وتدخل احدهم وقال أن الأسلوب جميل ومبتكر وان اللغة شاعرية أو أنيقة فإني سأقول له لو حذفت اسم رواية ووضعت على الغلاف كلمة أحجية أو لغز لوافقتك ولربما امتدحت الكتاب لما فيه من الغموض والصعوبة. وهاك مثالا آخر أكثر غرابة من الحلم. ” سمعت طرقا خفيفا على الباب وأنا أزحف رويدا رويدا نحو النوم. أتسلق السيجارة وهي تسافر نحو الكوة الوحيدة في الغرفة . فقلت هو دحمان صاحب الحمام إذن. فليست لي علاقة بأي من النزلاء، هل تدري من وجدت ؟ ( ثم يدخل في حوار مباشر)
-من ؟
رضوان الحكة , الشاب الذي سرق مني حقيبة الظهر ”.
” الروائي يمارس الإغراء لجلب القراء إلى حلم خيالي . الروائي يسعى لتقديم صورة مميزة ستصنع مشهدا حيا في ذهن القارئ.” -جايمس .ن. فراي-
الأشياء حدثت ولكن لا نستطيع معرفة بأي شأن تتحدث القصة ولا ماذا تقصد وهذا أمر محبط بالفعل. والشيء المشترك بين روايتي ” تلك المحبة ” و’ندبة الهلالي ” أنهما لم يوفيا الشروط الضرورية التي تتطلبها الرواية عموما. لم يجعلا من شخصيات روايتيهما تستحق بأن تعرف. لم تمنح هذه الشخصيات أي خلفية سرية ولم تحمل أي أفكار غير اعتيادية ولا تبصرات ملفتة . لم نرى تطورا ولا ترابطا يميزها داخل النص . لم نشعر بالخطر ولا بالأسف ولا حتى بالتعاطف مع أي منها وإن تحققت هذه الشروط في رواية ما فإنها حتما ستكون رواية فاشلة بامتياز.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى