الترجمة والمترجم والدقة والخيانة في كتاب يوسف بكار

محمد الحمامصي

قدم يوسف بكّار في كتابه “في محراب التـرجمة.. إضاءات وتجارب وتطبيقات ونقود” مسيرته مع الترجمة مؤكدا أنه قضى ردحاً من العمر في محراب الترجمة، وقال “كان لي في هذا المحراب تجارب وجهود فيها من الفارسـية وإليها تحديداً، وهو ميدان قليل فرسانه، وفي التنظير المنبجس منها، وفي نقد عدّة ترجمات كما يتبدّى واضحاً في الأعمال التي ترجمتها وألّفتها وحقّقتها، وفي البحوث والمقالات التي سطّرتها هي المشار إليها جميعاً في ثنايا هذا الكتاب الذي أُقفّيه بها ليكون رافداً ومتمّماً ومعضّداً.

وبديهيّ أن ينسحب كثيره على المترجمين والتّرجمة عامّة من أيّ لغة إلى غيرها، لأنّ ثمّة معايير وإجراءات ترجميّة مشتركة بين لغات الأرض كافة لا حَيْدة عن الالتزام بها والامتثال إليها”.

وقد قسم بكار كتابه إلى أقسام أربعة: الأوّل، إضاءات عامّة عن الترّجمة معنًى وقَدامة، عند العرب وغيرهم، وأهميّة ودواعيَ وشـروطاً وأنواعاً وطرائق؛ وعمّا يجب توافره من شـروط في المترجم الحقّ ووظائفه الدقيقة.

 

يوسف بكار: الدقة في اختيار الألفاظ والكلمات المناسبة لا تعني الميل إلى انتخاب الغريب والوحشي منها، وهو ما يفعله بعض المترجمين
والثّاني للتجارب، وهو محصور بصلتي أنا نفسـي بالترجمة وقصّتي معها، وإجراءاتي ومعاييري فيها من خلال ما ترجمت منفرداً أو مشاركاً. والثالث، تطبيقات اكتفيت منها بترجمة نموذجين اثنين اصطفيتهما من كتاب “دمى باخيام” للباحث الإيراني الخيّامي الثّبْت علي دشتي: أحدهما عشـرون رباعيّة مقرونة بأصولها الفارسـية من رباعيّات الخيّام التي قد يكون ظنّ الأصالة فيها كبيراً؛ والآخِر مبحث مهمّ عنوانه “عمر الخيّام عند المستشـرقين” لأنه يلقي ضوءاً نقديّاً ساطعاً على جهود خمسة من المستشـرقين الكبار في دراسة الخيّام وترجمة مختارات من رباعيّاته وهم الإنكليزي إدوارد فيتزجرالد والدّانماركي آرثر كريستنسن والألماني فرديرخ (أو فردريش) روزن، والرّوسـي فالنتين ﮊوكوﭬـسكي، والفرنسـي ﭘـيير ﭘـاسكال.

ومما طرحه بكار الشـروط العامّة للترجمة والمترجم، حيث أشار إلى أن الترجمة فَنٌ دقيق لا يستطيعه إلاّ ذوو المقدرة والبراعة، ولعلّ الجاحظ (من القرن الثالث الهجري) يكون من أقدم من تكلموا على فن الترجمة وشـروطها، وعلى المترجم وشـروطه.

يقول “ولا بدّ للترجمان من أن يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة. وينبغي أن يكون أعلم الناس باللّغة المنقولة إليها حتى يكون فيهما سواءً وغاية”.

إنّ شـرط الجاحظ هذا ضروري جدّاً لصحة الترجمة وسلامتها. فالبيان في اللّغة المترجم إليها ليس كافياً وَحْدَه، ولا بدّ من العلم والمعرفة بالنصّ المترجم. ويوضّح وديع فلسطين هذا الشـرط بقوله “فالفهم يسبق النقل، ولا بدّ لفهم المتن المراد نقله من إجادة اللّغة التي كُتب بها، ومعرفة دقائقها وقواعده وآدابها وشواذها وشواردها. ولا بدّ قبل النقل من إجادة اللّغة التي ينقل إليها النص”.

ويؤكد في كتابه الصادر عن دار “ناشرون وموزعون” أنّ علم المترجم بالموضوع الذي يترجمه أمر مهم جدّاً. من هنا جاءت الدعوة إلى “تخصّص” المترجم عند بعض الباحثين، وإلى “معرفته” عند آخرين. لكنه من المنطق الأقرب إلى الصواب أن ندعو إلى التخصص في ترجمة الموضوعات العلميّة التي لا يقدر عليها إلاّ المشتغلون بالعلوم والمتخصصون فيها. أمّا ترجمة الموضوعات الأدبية فقد يدخل ميدانَها رِجالاتُ العلوم القادرون عليها أيضاً.

 

فيكتور هوغو.. رائعته “البؤساء” شوهتها الترجمة
ويعتقد المؤلف أن الألفاظ التي أخذتها الفارسـية من العربيّة ويمكن أن يخطئ فيها المترجمون ما يأتي: لفظة “البتة” تعني في الفارسـية “طبعاً” أو “بالطبع”، لكن معناها العربي مثل معنى “أبداً” تماماً أي أنها تستعمل للنفي المطلق. من مثل: والله ما قابلته البتة. أنت لم تقل لي شيئاً البتة.

لفظة “فعلاً” تعني في الفارسـية “إلى الآن” أو “مؤقتاً” أو “بَعْدُ”. لكن معناها في العربيّة على العكس من الكلمة السابقة. فهي تستعمل للتأكيد. كقولك: قابلته فعلاً أي بالتأكيد الذي لا شكّ فيه. وقولك: انتهت الامتحانات فعلاً.

ورأى بكار أنّ الدقة في اختيار الألفاظ والكلمات المناسبة الدقيقة لا تعني الميل إلى انتخاب الغريب والوحشي منها، وهو ما يفعله بعض المترجمين للتدليل على مقدرتهم اللغويّة.

فالميل إلى الألفاظ الغريبة المهجورة من العيوب التي تؤخذ على المترجم. من هنا جاءت حملة ميخائيل نعيمة في كتابه “الغربال” على ترجمات الشاعر خليل مطران لمسـرحيات شكسبير، ونقد طه حسـين اللاّذع للشّاعر حافظ إبراهيم في ترجمته كتاب “البؤساء” لفيكتور هوغو، ونقد عدد من النقاد لعادل زعيتر “شيخ المترجمين العرب” في ترجماته الكثيرة.

وأضاف “من أهم شـروط المترجم الأمانة في الترجمة، وهذا يعني أن يترجم المترجم -أيّ مترجم- كل ما يريد ترجمته دون أن يحذف منه أو يزيد عليه أو يتصرف فيه إلاّ لضرورات قصْوى تفرضها الدّقة في الموضوع وطبيعة اللّغة المترجم إليها. إنّ أهمية التقيد بالأصل المترجم عنه تظهر في الترجمة الثانية أو الثالثة أو الترجمة عن ترجمة”.

فالمترجم الذي يترجم شيئاً عن ترجمته في لغة أخرى لا عن لغته الأصلية يقع حتماً في الأخطاء نفسها التي وقع فيها المترجم الأول من حذف أو زيادة أو تصرف أو بُعْدٍ عن الأصل. مثال هذا أنّه لمّا ترجم فيتزجرالد الإنكليزي عدداً من رباعيّات الخيّام إلى الإنجليزيّة ابتعد فيها -على الرّغم من روعتها- عن الأصل الفارسـي، حتّى قيل عنها “ولكنها بلا شكٍ ليست ترجمة بالمعنى المألوف…”.

ولمّا اعتمد بعض المترجمين العرب من مثل وديع البستاني اللبناني ومحمد السباعي وأحمد زكي أبو شادي المصريين على هذه الترجمة في ترجماتهم لرباعيّات الخيّام إلى العربيّة وقعوا في ما وقع فيه فيتزجرالد، فضلاً عن ابتعادهم عن أصلها الفارسـي.

 

أحمد زكي أبو شادي.. كرر خطأ فيتزجرالد
وقال بكار “يضطر بعض المترجمين أحياناً للحذف لاعتبارات دينيّة أو أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو غيرها؛ لكن الأمانة في الترجمة لا تبيح الحذف مهما تكن أسبابه، ويعدّه النقاد خيانة علمية كبرى. لهذا لم يَرْضَ النقاد عمّا أحدثه عادل زعيتر -وهو شيخ المترجمين العرب- من حذف في ترجمته لكتاب “حضارة العرب” لجوستاف لوبون.

الأمانة تفرض على المترجم أن يترجم الأصل كما هو، وله بعد ذلك أن يسجّل ملاحظاته واعتراضاته وتعليقاته ونقده لآراء مؤلف الكتاب الذي يترجمه في حواشي ترجمته.

غير أن أسوأ أنواع الحذف وأشدّها خيانة الحذف المتعمّد الذي يلجأ إليه المترجم لعجزه وعدم فهمه لبعض الجمل والعبارات والاصطلاحات في اللّغة التي يترجم عنها، فلا يجد -والحال هذه- طريقة أفضل من الحذف للفكاك من هذه المشكلات.

وقد يؤدي ضعف المترجم في اللّغة التي يترجم عنها إلى التلخيص لا الترجمة. وخير مثال على هذا أن حافظ إبراهيم ترجم “البؤساء” وهو لا يجيد الفرنسـية فجاءت ترجمته مشوّهةً حتى قال طه حسـين الذي يرى أن “ليس للترجمة قيمتها حقّاً إلاّ إذا كانت صورة صحيحة للأصل”، إنّ ترجمة حافظ ليست كاملة فهو يلخّص لا يترجم.

وأوضح بكار أن على المترجم الذي يترجم موضوعاتٍ أو كتباً من العصور الماضـية أن يراعي لغة ذلك العصر ومصطلحاته، عليه أن يكتب بلغة ذلك العصر لا بلغة عصره هو. فإذا ما أردنا أن نترجم شيئاً من “تاريخ البيهقي” أو “الشاهنامة” أو “سـياست نامه” إلى العربيّة علينا أن نتقيد باللّغة والألفاظ والاصطلاحات التاريخيّة التي كانت سائدة في عصر أصحابها. أيضا من شـروط الترجمة وصعوباتها ووظائف المترجم أيضاً إعادة المترجمات -من أيّ لغة- إلى اللّغة ذاتها عند الترجمة.

 

الأمانة في الترجمة شرط أساسي
لتوضـيح هذا أقول: إنّ في الكتب الفارسـية، لا سـيما القديم منها، كثيراً من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشـريفة وأقوال الصحابة والخلفاء ورسائلهم وخطبهم، وكثيراً من الشعر وكلها مترجمة عن العربية.

فالمترجم الذي يود ترجمة كتاب عن الفارسـية فيه أشياء من هذه يستطيع أن يترجمها بلغته الخاصة ما يؤدي معناها، لكن الدّقة في الترجمة والأمانة معاً تُوجِبان عليه الرجوع إليها في أصولها وإثباتها كما كانت عليه. ومع أن هذا الأمر شاق ويحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير، فإنّه لا بدّ للمترجم الأمين منه.

وعلى المترجم من الفارسـية إلى العربيّة أو العكس، مثلاً، أن يراعي كتابة أسماء الأعلام والأمكنة والألفاظ الفارسـية التي دخلت العربيّة فعرّبها العرب وَفْقَ أصول اتفقوا عليها في لغتهم أو أُثرت عنهم مما نجده في كثير من المؤلفات العربية القديمة والحديثة وفي الترجمات أيضاً.

فمن المعلوم أن الحروف الفارسـية الأربعة “پ، چ، ﮒ، ﮊ” ليست في اللغة العربيّة الفصـيحة التي تخلو أيضاً من كثير من الحروف أو الأصوات في اللّغات الأجنبيّة كالإنكليزيّة والفرنسـية ما اضطر مجمع اللّغة العربيّة بالقاهرة عام 1964 إلى وضع قواعد لتعريب الألفاظ والأعلام الأجنبية وكتابتها بالعربيّة.

(العرب)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى