نوبل للآداب لكازو إيشيغورو: الروائي الياباني الأكثر امتلاكا للغة شكسبير

عبد اللطيف الوراري وعبدالدائم السلامي

يبدو أن الأكاديمية السويدية، مُمثَّلةً بحكمائها الثمانية عشر، قد اتعظت كثيرا ممّا حصل لجائزتها في الآداب لسنة 2016 من ازدراءٍ من قِبَلِ الأمريكي «بوب ديلان» الذي تجاهل مراسمَ التتويجِ بالفوز ولم يتفاعل معها إلا بعد مرور عدّة أسابيع. وهو أمرٌ جعل حفل تسليم تلك الجائزة باهتا وضامرَ الإشعاع الإعلامي. ولتلافي مثل هذا الإحراج استقرّ رأي هؤلاء الحكماء على منح جائزة نوبل للآداب لعام 2017 لكاتب أوروبيّ «ذي أخلاق أدبيّة» على حدّ تعبير أحد الصحافيين، وهو الروائي البريطاني، ذو الأصل الياباني، كازو إيشيغورو، الذي وصفته السكرتيرة الدائمة للأكاديمية السويدية، سارة دانيوس، في إعلان فوزه بأنه «كشف، في رواياته العاطفية القوية، الهاويةَ التي يقف عليها شعورُنا الواهم بالرفاهية في العالم».
وُلد إيشيغورو سنة 1954 في مدينة ناغازاكي اليابانية، ولمّا بلغ عامه السادس سافر أبواه «شيزو إشيغورو» و»شيزوكو إيشيغورو» إلى إنكلترا للاستقرار فيها مؤقَّتا، إلاّ أنّ ظروف العمل هناك قد رغّبت هذه العائلة في الاستقرار في المملكة المتحدة. بدأ إيشيغورو يتعلّم الموسيقى منذ الصِّغرِ، وصار في عامه الرابع عشر عازفَ آلة الغيتار، ومن ثَمَّ كان طموحه أن يُصبح نجما من نجوم الرّوك، وهو ما حفزه لأنْ ينتمى إلى فرقة موسيقية شبابية في سنّ الواحدة والعشرين، ويكتب لها بعض الأغاني، وقد اكتظّت غرفته آنذاك بآلات الموسيقى وكتبِها، وكان في تلك الفترة أيضا يمُجُّ الأدب ولا يُقبل على قراءته، ولا يعرف من الكتّاب إلا الشاعر والروائي الأمريكي جاك كيرواك، فضلا عن كتّاب حركة «الجيل الضائع» أمثال سكوت فيتزجيرالد وارنست همنغواي وعزرا باوند.
أوّل تماسِّ مع الكتابة بالنسبة إلى إيشيغورو كان عبارة عن «مذكِّرات» كتبها عن رحلته إلى أمريكا وكندا. وبعد أن التحق بجامعة «كنت» وتحصّل منها على شهادة الليسانس في الفلسفة، نال شهادة الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة ّإيست أنغليا» عام 1980. وفي خلال تلك المرحلة حضر درسًا حول «الكتابة الإبداعية» قدّمته الأستاذة والروائية البريطانية أنغيلا كارتر، التي وصفها بأنها مُلهمتُه ومعلِّمتُه، وقال عنها إنها «سيدةٌ عظيمة عرفتْ كيف تجعلني أفهم أنه لا توجد قواعد ثابتة للكتابة الأدبية، وأنه لا سبيل إلى أن أكون أديبا سوى سبيل الطموح». ويبدو أنّ هذا اللقاء مثّل تحوّلاً في اهتماماته الإبداعية، حيث صار منكبًّا على قراءة الآداب البريطانية والأمريكية، وراح يكتب نصوصًا قصيرة مثّلت بالنسبة إليه «تدريبا» على كتابة الرواية. وفي عام 1982 تحصّل إيشيغورو على الجنسية البريطانية وتزوّج الأسكتلندية لورنا ماكدوغال التي يعتبرها أفضل قارئة لأعماله، وقد أنجبت له ابنته ناعومي.

الفضاء الثالث

غير أن قراء الأدب المكتوب بالإنكليزية لم يُفاجأوا كغيرهم، فهم يتلقّون كازو إيشيغورو باعتباره واحداً من أبرز كتاب فن الرواية المعاصرين، فقد سبق له أن نال جائزة البوكر الأدبية عام 1989 عن روايته «بقايا النهار» التي حوّلها جيمس إيفوري إلى فيلم سينمائي، وجائزة «صنداي تايمز للتفوّق الأدبي» عام 2008، وفي عام 2005 أدرجت صحيفة «التايمز» اسمه ضمن قائمتها الشرفية لأعظم خمسين مؤلفاً يكتب بلغة شكسبير منذ عام 1945. عدا أن أعماله منذ ثلاثة عقود ما فتئ يقابلها استحسان نقدي وأكاديمي رفيع، وقد أدرجت الدراسات التي تناولتها ضمن (الفضاء الثالث) بتعبير هومي بابا؛ حيث يحمل صاحبها البريطاني من أصل ياباني تأثير الثقافتين اليابانية والإنكليزية بشكل غير قابل للفصل. فقد ولد كازو إيشيغورو في مدينة ناكازاكي المنكوبة بالقنبلة الذرية، ثم انتقل رفقة أبيه، وهو في السادسة من عمره، إلى إنكلترا، البلد الاستعماري الذي سيصبح وطن قلبه. قبل أن تلتحق بهما بقية الأسرة، ويستقرون في بلدة سري.

روائي التذكر والنسيان

ابتداءً من مطلع الثمانينيات ، تحدد بالنسبة إلى كازو مسار حياته وعمله، ومستقبله الأدبي باللغة الإنكليزية التي غدت مع الوقت لسان تعبيره الأعمق عن الفنّ الذي يريد أن يوصله إلى العالم ويتواصل به معه؛ فن الرواية، بل إن عمله الأدبي أصبح يجسد جوهر الثقافة البريطانية.
أصدر روايته الأولى «ضوء شاحب على التلال» في عام 1982، التي أبرأ فيها ذمته لبلده الأصلي وترك ذكرياته عنه حيةً في ذهنه، وقد جعل شخصياتها تتعافى من دمار القنبلة الذرية، التي ضربت ناكازاكي، بما فيها والدته التي تكبّدتها وعانت منها. ولم تكن باكورة أدبية تتخللها عثرات البدايات كما جرى عليه المعتاد، بل حملت في طياتها بذور موهبة أدبية حقيقية وأصيلة؛ حيث استرعت انتباه النقاد إليها، ومُنحت لها جائزة «الجمعية الملكية للأدب». ثم تتابعت رواياته في الصدور، ومعها بدأ نجمه يسطع في كل مرة، ليس روائيّاً وحسب، بل كاتب سيناريوهات لأفلام سينمائية حملت رمزية وإيحاء بعيدا ينعش خيال قرائها ومشاهديها على السواء، بقدر ما يشحذ وعيهم بمزيد من الكشف والتبصر.
فرواياته تستلهم الحبكة الكافكاوية إلى حد ما، إذ تنوع في الذهاب والإياب مجرى الأحداث في مسعى لالتقاط تقلُّباتها وأشكال تحوُّلها من خلال الحفر في دهاليز الشخصيات، سواء الشخصية أو التاريخية، وهي تستحضر ذكرياتها الماضية. وفي هذا الصدد، يتذكر قراؤه شخصية جيمس ستيفنز الذي يشهد ظهور الفاشية في إنكلترا خلال فترة ما بين الحربين في روايته «بقايا النهار»، أو النظرة التي يلقيها المؤلف على اليابان، ولاسيما ناكازاكي مسقط رأسه غداة الحرب العالمية الثانية في روايته «ضوء شاحب على التلال»، وفي روايته «العملاق المدفون» ترك شخصياته تتحدث ببلاهة.
فقدان الذاكرة؛ هذا هو الحافز الذي يحمل الروائي على التعبير عن عالمه وموضوعاته المعقدة بشكل غير مباشر، وأحياناً مخادع وماكر. فهو يبحث في المناطق المحايدة لكي يبرزها في صورة مستفزة، ويجعل العقل السردي متوتّراً بشكل لا شفاء منه بين التذكّر والنسيان. إن مثل هذه التقنية عند كازو تسمح للشخصيات نفسها أن تكشف عن إخفاقاتها في سياق السرد، بله تجعل القارئ يتعاطف معها. وهكذا، تنتهي روايات إيشيغورو بدون حل الصراع الذي تخوضه هذه الشخصيات، فتذعن لواقع الآلام وتضطرّ إلى دفن قضايا المصير التي تشغلها في الماضي، متوهمة بأن ذلك سيسبب لها الراحة ونهاية العذاب النفسي. وقد ترجمت أعمال كازو إيشيغورو إلى أكثر من ثلاثين لغة، بما فيها اللغة العربية التي ترجمت إليها رواياته: «بقايا اليوم، من لا عزاء لهم، عندما كنا يتامى، فنان من العالم الطليق».
يُوصف الروائي كازو إيشيغورو في الأوساط الثقافية بأنه «الكاتبُ اليابانيُّ الأكثر بريطانيةً من الكتّاب البريطانيّين»، وهو وصف مُحيلٌ على مدى تملّكه لغة شكسبير، وكثرة تعمّق نصوصه الروائية في الواقع البريطاني، بل إنه وجد في الإنكليزية سبيلَه إلى التعبير الصافي عمّا يرغب في قوله. وقد تجلّى كلّ ذلك في روايته الأولى «ضوء شاحب على التلال» الصادرة عام 1982، إذْ تظهر بطلتُها أرملةً يابانيةً تسمّى «إيتسوكو»، وقد هاجرت إلى الريف الإنكليزي بعد أن رفض زوجها «جيرو» السفر معها على إثر صدمة ناغازاكي النووية، ذلك أنه فضّل البقاء في بلدته ومواجهته مصيره بين أهله. وبعد انتحار ابنتها الكبرى «كيكو»، تعيش هذه البطلة حالةَ تداعٍ للأحداث التي شهدتها في حياتها، وهو تداع مثّل موردًا حكائيا توزّع فيه نزوعُ الشخصيات على نوعين: نزوع الحنين إلى الماضي الإمبراطوري المجيد في اليابان، ونزوع إلى فهم ما يجري في العالم الجديد الذي طغت عليه ثقافة تسليع المادة والأفكار والأحلام. وقد لفتت روايات إيشيغورو انتباهَ النقّاد إليها، حيث وجدوا فيها كتابة تمتح عجينتَها من واقع الناس، وتصوغُها صوغًا جديدا ذا مناخات كافكاوية تتعرّج فيها الأحداث وتتقلّب فيها الشخصيات، لترصد التذبذب الحاكم لمَعيشِ الناس، ومظاهر تعقّد علاقاتهم، ويظهر ذلك خاصة على إثر تنامي الفاشية في إنكلترا خلال فترة ما بين الحربين، يكتب إيشيغورو ذلك بأسلوبٍ جامعٍ بين المأساة والسخرية جمعًا أليفًا. يُشار في هذا الصدد إلى أن هذا النوبليّ قد تحصل على جائزة «غراناتا» عن أفضل مؤلفين شباب بريطانيين عاميْ 1983 و1993، وعلى جائزة «وايتبريد» عام 1986 عن روايته الثانية «فـــــنان من العـــالم العائم»، وعلى جائزة البوكر عن روايته الثالثة «بقايا النهار» عام 1989. كما أصدر روايات أخرى منها «عندما كنّا يتامى» و»لا تدعني أرحـــــل» و«العملاق المدفون»، و«آثار اليوم» التي تحوّلت إلى فيلم سينمائي أخرجه جيمس إيفوري وقام بدور البطولة فيه الممثل أنتوني هوبكنز، وقد ترجمت جلّ روايات إيشيغورو إلى أكثر من ثلاثين لغة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى