عندما أصبحت الإيرانية آذر نفيسي مواطنة في المنفى الأميركي

حاتم الصكر

بعد أن تؤدي الكاتبة والأكاديمة الإيرانية آذر نفيسي اختبار الحصول على الجنسية الأميركية تجلس بانتظار موعد القسَم، وتتأمل وضعها بدءاً من سؤال يراود جل القادمين إلى أميركا:»ماذا يعني أن يكون الإنسان أميركياً؟» وتتوصل إلى استنتاج مفاده «أن اختيار الإنسان لجنسيةٍ ما، أشبه باختيار شريك: إنه اختيار يقيّدك…» وتضرب مثالاً على ذلك بصحة أميركا ومرضها، بحضارتها وبالأزمات الخانقة التي مرّت بها.
بالنسبة إلى أستاذة أدب إنجليزي قادمة من طهران سيكون ثمة أكثر من دافع لتبحث عما تسميه «جمهورية الخيال»، وهو العنوان الذي اختارته لكتابها الصادر عام 2014. بعد ستة أعوام من حصولها على الجنسية الأميركية. وقام القاص العراقي علي عبدالأمير صالح بترجمته إلى العربية أخيراً (منشورات الجمل).
من أبرز تلك الدوافع في حالة نفيسي هو الخيال الأدبي والسرد تحديداً. إنها تذكّرنا بمقاربة أدوارد سعيد للاستشراق من خلال قراءة متونه الأدبية والسرد بخاصة، حيث يتم تمثيل الآخر بصورة نمطية تبرر اختزاله أو تهميشه وحتى كراهيته.

مدونات سردية
عرفت نفيسي أميركا من خلال المدوّنات السردية الأميركية قبل أن تقيم فيها… تقول نفيسي» قبل أن أجعل من أميركا بلادي بوقت طويل، أقمت في قصصها الخيالية وأشعارها وموسيقاها وأفلامها…». من هنا تدجّجت بفكرة مسبقة عن المكان وتاريخه وثقافته. وكان مرجعها الأول السرد الذي قرأته طفلةً بتشجيع أسري، ثم وهي طالبة، وأخيراً وهي تقوم بتدريس ذلك السرد لطلابها وطالباتها في طهران ونيويورك من بعد. حصيلة ستجعلها تلمّ شتات أفكارها عن جمهورية الخيال الموازية للحلم الأميركي من خلال رواياتها. العنوان الجانبي لكتاب نفيسي هو «أميركا في ثلاثة كتب» لقد اختارت استقصاء صدقية ما تخيلته عن أميركا عبر قراءة ثلاثة أعمال ترى أنها تمثل العقلية السائدة في أميركا، ومعالجة أهم ما يدور في باطن مجتمعها العصيّ على الفهم. ثمة رؤيتان تتصارعان بصدد أميركا، ما جعل نفيسي تحسّ أنها تعيش في أميركتين. الأولى تشكّلها حرب فيتنام والحقوق المدنية وحركات النساء، والأخرى أميركا المكتشفة من خلال ثقافتها لاسيما رواياتها وموسيقاها وأفلامها.
لكنها تختار المقاربة الثانية. فالفن القصصيّ في رأيها يمنح الفرصة لرؤية جماليات الواقع الأصلي كما تسميه. وبالتالي ستكون أزمة أميركا التي انتمت إليها هي أزمة خيال في المقام الأول. وتستشهد بقول أينشتاين المنفيّ مثلها إلى أميركا يوماً ما «الخيال أهم من المعرفة».
ما تسميه الطبيعة المتشرّدة لأميركا والتي مثلتها في شكل جيد أعمال الأميركان الروائية، أو الخيال الحرّ الذي ينقل جمال الواقع الأصلي، هي التي جذبتها دوماً.
في أميركا ممكن شعورياً أن تنتمي إليها أو أن تكون غريباً عنها. ربما لطبيعة تكوّنها من مهاجرين ولاجئين من مختلف قارات العالم. ذلك يسهّل الشعور بأن الماضي ضروريّ حتى بعد القسَم والانتماء الجديد. تحسّ آذر نفيسي أنها يمكن أن تكون أميركية من دون أن تتخلّص من وطنها… «كي تصبح أميركياً لا يتعيّن عليك أن تتخلّص من ماضيك. بل يجب أن تستوعبه في حاضرك». من هنا تنشأ تلك الفسيفساء التي يتباهى بها الخطاب الرسمي الأميركي. قبل أن يصبح الغرباء الجدد عبئاً عليها. المحلّفون والحكّام المشرفون على بروتوكالات التجنّس في العادة خلال خطبهم التقليدية الموجّهة إلى المواطنين الجدد، يؤكّدون على عدم نسيان الماضي وثقافة الأوطان القادمين منها، والطرز المحلية في الحياة، لكنهم يستدركون دائماً بالقول بضرورة الإخلاص للمكان الجديد ومحاولة الاندماج فيه.
لكن الشخصية الأميركية تميل إلى العزلة والوحدة ما يحول دون ذلك أو يجعله مهمة صعبة. ستثبت نفيسي ذلك من خلال ثلاثة أعمال: مغامرات هكلبري فن لمارك توين، وبابيت لسنكلير لويس- أول روائي أميركي يحصل على نوبل- والقلب صياد وحيد لكارسون مكولرز. لكي تنتهي بمعاينة ماقبل عقد الستينات، لكنها أضافت جيمس بالدوين كخاتمة لاعتقادها بأنه وبسبب نشاطه في مجال الحقوق المدنية يؤشر إلى نهاية ما تسميها الحقبة الكلاسيكية للرواية الأميركية. إن كون أميركا بلداً كوَّنه المهاجرون، جعله رمزاً للنفي واختيار وطن نقيض للوطن الأصلي. هكذا يهيم الغرباء في أميركا، ويلتقون في نقطة تقاطع حلمهم أو خيالهم بأميركا التي ترسمها الجغرافيا. وتخذل تلك الرؤى المتشكلة بقوة الخيال الذي تصرّ نفيسي على الدفاع عنه والمطالبة به.

المهاجرون
ولكن الخيال مقيّد هنا. طالب غريب من بلدها ينبّه نفيسي إلى أن ما تتحدث عنه من كتب لم يقرأها الأميركان أنفسهم. ليس من أحد يهتم بذلك بعد. هكذا يخيب ظن المهاجرين الباحثين عن الخيال. يصور رسام الكتاب بيتر سيس تلك الخيبة في تخطيط يوضح طيران المهاجرين فوق بحر تفتح فوق سطحه الحيتان أفواهها بانتظار وصولهم. على الغلاف تطير سيدة بين النجوم فيما تبدو البنايات العملاقة تحتها مسننة كالحراب. هكذا يختزل الرسام مأزق أو محنة الخيال الذي تصرّ نفيسي على استخلاصه من المدوّنات السرديّة في أجزاء الكتاب الثلاثة وخاتمته.
هل يكون بؤس البلدان الأصليّة سبباً في هذا التمسّك بجمهورية الخيال؟
تقول نفيسي إن أميركا تتحوّل إلى أرض مورقة خضراء ملونة بصورة مزعجة، ومرغوبة. وكلما أصبحت طهران أكثر غرابة وتهديداً، ظهر المنظر الطبيعي الخيالي الأميركي أكثر حيوية في المخيلة. وذلك تعبير عن شعور الغرباء المهاجرين واللاجئين في أميركا أو بلدان العالم الأخرى. تضيق الأوطان فتصبح الأوهام التي تغذيها الأحلام عوامل جذب وتشجيع لتحسين المنفى.
لكن تلك المعادلة تلبّي حاجتها إلى الخيال حول أميركا فتعترف بالقول «إني كشأني دوماً أبحث عن أجوبة في الرواية» وببلاغة او مبالغة تصرّح بأن أميركا (كتب وثائقها التأسيسية الشعراء والروائيون) لذا تسمّي أميركا جمهورية الخيال.
إجرائياً تختار نفيسي خطّين لكتابها يمكن القارئ متابعة تلاقيهما وتقاطعهما:
– الروايات الثلاث التي تتعقّب أبطالها للتعرف على تفكير كتّابها وصورة أميركا كما رسموها.
– والشخصيات التي تشاركها التفكير بصدد أميركا والخيال الذي تبحث عنه. وأهم تلك الشخصيات فرح إبراهيمي التي تأتي مثلها بحثاً عن الحرية وتصارع مرض السرطان الذي يفتك بها أخيراً. وحضورها ليس للذكرى أو المشاركة السردية فحسب، بل لأن كثيراً من أفكار نفيسي وقلقها وحدوسها تأتينا بطريق محاوراتها مع فرح، حتى عناوين الكتاب وفصوله تناقشها مع صديقاتها وتفضي بحدوسها إلى طلابها وطالباتها. أن تدرّس رواية فليس مثل قراءتها للمتعة تقول نفيسي. وبهذا تتوصّل إلى مطابقات كثيرة بين أحداث الروايات وواقع أميركا. الخيال يقدم الصور الواقعية عادة. انتحار سنغر بطل القلب صياد وحيد هو ترجمة لعزلة الفرد والوحدة. الوحدة وجع أميركي تقول مكولرز. لذا تظلّ أميركا تفتش عن ذاتها وهويتها. وتصبح الوحدة والعزلة امتيازاً ديموقراطياً ووسيلة للاعتماد على الذات. وسيساهم كاتب أسود هو بولدوين في ذلك البحث عبر أعماله على رغم أنه حفيد عبد كما يقول ولقيط الغرب كما يصف نفسه. ويستذكر ماعاناه بسبب لونه قبل إقرار الحقوق المدنية الكاملة. إلا أن ما يخشاه هو أن يصبح الضحية كالجلاد وأن يدفعه الظلم إلى العنف.
لقد قدّمت آذر نفيسي شهادة نقدية وشخصية في الوقت نفسه، وأعلت من شأن الوثيقة الأدبية شاهداً على تحوّلات العصر والمجتمع والنفس البشرية. وساهمت إشارات المترجم علي عبدالأمير صالح وحواشيه التعريفية الكثيرة بإغناء مادة الكتاب وقراءته بسلاسة وانثيال ضمنتهما لغته وبساطته.

(الحياة)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى