«كارل ماركس الشاب» للهاييتي راوول بيك: سيرة ذاتية لسنوات المنفى

سليم البيك

للمخرج الهاييتي راوول بيك فيلمان هذا العام، أحدهما «لستُ زنجيّك» وهو وثائقي عن حياة الكاتب الأمريكي جيمس بالدوين، وهو مرشح للأوسكار هذا العام، وفيلم آخر سياسي كذلك وملتزم وهو «كارل ماركس الشاب» لكنه فيلم روائي يحكي سيرة ماركس منذ التقى برفيقه فريديريك إنجلز إلى أن أعلن الاثنان «البيان الشيوعي». المخرج إضافة إلى كونه سينمائياً، هو ناشط سياسي ووزير ثقافة سابق.
أمّا فيلمه المعروض في الصالات الفرنسية اليوم، الذي شارك في مهرجان برلين الأخير، فهو مقاربة لافتة لحياة الفيلسوف الأكثر تأثيراً في تاريخ البشرية، الذي قلب وظيفة الفلسفة، كما قال، من تفسير العالم إلى تغييره. هذه من أشهر الأفكار التي عمل عليها ماركس، والتي مرّت في حديثه مع إنجلز في الفيلم أثناء خروجهما من حانة ليلاً بعدما أمضيا الليل كلّه يلعبان الشطرنج ويتبادلان الأفكار، وقد تعرّفا على بعضهما مؤخراً.
ليس الفيلم سياسياً، ولا هو مصنوع لغاية تمجيد أفكار ماركس ولا لغاية النيل منه، هو فيلم سيرذاتي بالدرجة الأولى، مُعتنى به جمالياً، ولذلك أتى جيّداً، وقد صوّر ماركس الشاب بكل حالاته: التعِب والعاشق والمشاكس والغاضب، لكن أساساً الساخر والعنيد والحاد والحيوي والذكي، وهي صور لا يتخيلها أحدنا عن ماركس الذي لا نعرف منه غير صورته وهو شيخ بشعر ولحية كثيفين وقد اجتاحهما الشيب.
يبدأ الفيلم باللقاء الأول مع إنجلز، وكان يعرف كل من الاثنين عن الآخر بدون أن يصرّح بإعجابه بما قرأه له، اللقاء الأوّل كان صدامياً، ماركس الساخر والمتعجرف وإنجلز الرّهيف والهادئ، بعد لحظات يعترف كل منهما بأنّه قرأ كتاب الآخر: «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا» لإنجلز، و«مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» لماركس. لكن قبل التقائهما، مرّ الفيلم على ملاحقات ماركس من قبل السلطات، حيث كان، بداية في كولونيا الألمانية، فباريس فبروكسل فلندن، حيث عاش منفياً مع زوجته في هذه الأمكنة، وكان إنجلز إلى جانبه ويساعده مالياً لتخطي ظروفه الصعبة. ولولا المساعدة المالية من إنجلز لاحقاً والتي سمحت لماركس بالتفرّغ والبحث والكتابة لما أنجز الأخير مجلّدات «رأس المال». كما يعرِض الفيلم إلى كتابة ماركس لـ «بؤس الفلسفة» التي جاءت ردا على كتاب «فلسفة البؤس» لبرودون.
من ناحية، يمكن القول إن الفيلم ليس سيرة ذاتية لماركس، فهو أساساً يتناول مرحلة من حياته، بل سنين قليلة منها، لكنها السنين التي نشأت فيها الشيوعية، فكراً وتنظيماً ومفهوماً، ضمن «عصبة الشيوعيين» التي أعلن عنها الرجلان. فالفيلم بتناول هذه الفترة تحديداً من حياة ماركس إنّما يتناول منشأ الشيوعية التي ابتعد مفهومها كثيراً عمّا أسّس له ماركس، في العديد من تمثيلاتها اللاحقة، دولاً وأحزاباً. وأتى الفيلم اليوم للتذكير بأصل الأفكار التي حملها ماركس، اليوم وفي هذا الشهر الذي يشهد ذكرى مرور قرن على ثورة أكتوبر/تشرين الأول في روسيا والتي أدت لقيام الاتحاد السوفييتي.
لم يكن ماركس في الفيلم مفكّراً ومتحدثاً وكاتباً وحسب، بل كان أساساً صحافياً ومناضلاً وملاحَقاً ونداً. كان ثورياً بكل معنى الكلمة، فكراً وممارسة، لكنّه قبل وصوله مع إنجلز إلى كتابة «البيان الشيوعي»، قال لصديقه بأنّه تعب وأنّه في الثلاثين ولا شغل ثابت له وأنّه سيتفرّغ للكتابة لصحيفة «نيويورك تريبيون» لحاجته لإعالة أسرته، يقنعه هنا إنجلز بضرورة إنهاء مشروعهما الذي سيصير «البيان الشيوعي» وبأنه سيساعده مالياً إلى حينه. ولا بد من الإشارة إلى الدور الذي لعبته زوجة ماركس كي ينجز ما يكتبه، ووقوفها إلى جانبه وترحالها معه منفياً بين المدن.
إثر نهاية الفيلم (The Young Karl Marx) حيث يعلن الرجلان عن «العصبة الشيوعية» بالإقناع وبالتصويت، بشكل ديمقراطي، تمرّ صور لاحقة زمانياً، من القرن العشرين، لأشكال عدّة من نضالات الشعوب كاستمرارية للأفكار التي أسس لها ماركس، بإنسانيتها وليس حزبيتها، لم تظهر صور لأحزاب شيوعية ولا للاتحاد السوفييتي، بينما ظهرت صور لمانديلا ولإسقاط جدار برلين ولعمال فلسطينيين أمام الجدار الإسرائيلي وتشي غيفارا وحركة احتلوا وول ستريت، في مقابل زعماء حرب من كل العالم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى