صباح جديد.. ل -سالار اوسي-

-سالار اوسي-

 

أشعِلْ سيجارتك انفخ بدخانها في وجه الهواء الضاغط على روحك.

تعمّد ترك النوافذ مفتوحةً، كي لا ترتطم في عودتك بشظايا زجاجها، وفق رغبة القذائف حولك.

 

ضعْ بعضاً من (الكوالا) على حذائك، امسحه جيداً حتى يعكس ضوء الشمس.

 

وأنت في الشارع، اركلْ بحذائك النظيف، دون تردد، مؤخرة كلُّ من يتجاهل النظر في وجه ذاك الطفل الجائع، المتكوِّر على نفسه كحلزون، على حافة الطريق.

 

وأنت في انتظار «السرفيس»، لا تسند ظهرك إلى الحائط المتسخ بالشعارات الكبرى.

 

وأنت في الطريق، تجنَّبْ النظر في وجوه الركّاب حولك، كُنْ مثلَ تمثال أثري يُنقَل إلى أقرب متحف.

 

قبل الحاجز الجاثم على مدخل المدينة، بخمسين متراً، أُقبُضْ بيدك اليمنى قلبك الأيسر، المرتجف رعباً حد الرقص.

 

اعقدْ حاجبيك، وتصنَّع ابتسامة غامضة لم تعرفها من قبْل. دع الجندي الواقف على الحاجز يضيع في ملامح وجهك، ويلوِّح بالمرور.

 

الآن، ارفع يدك رويداً رويداً عن قلبك، بعد أنْ تتأكد من أنه لا يزال ينبض.

 

في الباحة الخلفية للجامع الأموي، لا تَعِرْ انتباها لبائع عرق السوس، وهو يصب «السائل البني» إلى منتصف كأس، ليطفحها برغوةٍ صابونية. دعه بكامل حركاته الاستعراضية أسيراً لكاميرا الشاب الذي يترصده، وكأنه يترصد قرداً في حديقة الحيوانات.

 

أدِرْ ظهرك، اجلُسْ القرفصاء، وراقب الحمَام كيف يحط وكيف يطير.

 

في المقهى، خُذْ ركناً قصيّاً للجلوس، دِعْ عمودك الفقري يتوازى مع ملتقى الحائطين خلفك. لا تمعن في التفاصيل، اقبضْ على كامل المشهد في مرمى عينيك.

 

في المقهى، لا تحاول أنْ تقرأ جريدة كما يفعل «المثقفون»، اشربْ قهوتك وحسبْ، ثم غادِرْ.

 

لدى مغادرتك، ستكتشف أن خطأ ما قد حدث، حين دفعت آخر قطعة نقدية في جيبك، دونما انتباه، «بقشيشاً» للنادل.

 

وأنت عائد، الآن، إلى بيتك، مشياً، لن تشعر بأي تعب، ولن يلفت انتباهك شيء في محيط خطواتك.

 

ثمّة أمر غامض، سيدفع بنظرك إلى السماء، وستحتل مخيلتك خيوط الدخان التي تركتها الطائرات بعد جولات من أزيزها في فنون القتل.

 

ستتولّد فيك رغبةٌ عارمة، في أن تكون طويلاً طويلاً، طويلاً جداً بحيث تلامس بيديك تلك الخيوط الدخانية، وتلونها كما تشاء، ثم تنسجها برويّة، لتصنع منها بساطاً صغيراً، تضعه تحت قدمَيْ الله الكبيرتين، أو أن تحوِّلها إلى خيمةٍ مزركشةٍ فوق رأس ذاك الطفل (الحلزوني) الجائع.

 

على مقربة من البيت، ستشعر بجوع لسماع موسيقا مبتكرة من إيقاع خطواتك على الدرج المفضي إلى الطابق الرابع، ممزوجاً بلهاثك المتقطع في شكلٍ هارموني مع صوت آلام جارك، بائع الذرة، الذي أُصيب بطلقة قناص في زاوية الشارع، قبل شهرين وستة أيام وبضع ساعات.

 

الآن، وأنت تغلق باب البيت خلفك دون مبالاة، قف قليلاً أمام المرآة التي لن تعكس هيئتك هذه المرّة، ستكون فارغة منك، ولن ترى فيها سوى الحائط الذي خلفك، واللوحة الصغيرة المعلقة عليه.

 

أنت وهمٌ، والمرآة حقيقة.

 

السيجارة التي أشعلتَها كانت وهماً، لكنَّ دخانها حقيقة.

 

الطفل الجائع الذي رأيتَه في الشارع كان وهماً، لكنَّ جوعه حقيقة.

 

الشعارات الكبرى التي قرأتَها على الحائط كانت وهماً، لكن الحائط حقيقة.

 

الجندي الذي أرعبك/ أرعبته على الحاجز كان وهماً، لكن الحاجز حقيقة.

 

بائع عرق السوس كان وهماً، لكن الكاميرا التي رصدته حقيقة.

 

دخان الطائرات الذي صنعت منه بساطاً تحت قدمَي الله كان وهماً، لكن القتل كان حقيقة، وكان الله حقيقة.

 

الموسيقا التي سمعتَها منذ قليل كانت وهماً، لكن آلام جارك حقيقة.

 

الآن، أُخلدْ إلى النوم، لا تطمع بحلم ينقذك، لا تنتظر صباحاً جديداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى