السينما والحرب الأهلية الإسبانية

كان الظنُ خلال وقت طويل، ولعقود كاملة، أن الحرب الأهلية الإسبانية كحدث بالغ الأهمية بتداعياته وتأثيراته قد أصبح جزءًا من الماضي الذي لا يود الكثيرون النبش فيه. لكن الأسابيع الماضية جعلت شبح الحرب الأهلية الإسبانية، وفرانكو أيضًا، يظهران على السطح في ظل حملة انتخابية شرسة على رئاسة إقليم مدريد خلال الأسابيع الأخيرة، والتي شهدت استخدام اتهامات بالتخوين والتهديد بالسجن بسبب الفساد أو بالطرد من إسبانيا بين الأطراف المتنافسة.  وعلى الفور، يخطر ببالي فيلم “الثور الصغير” الذي يتناول أربعة وعشرين ساعة من الحرب الأهلية. التناول الكوميدي لا يخفف من ألم ومأساوية الطرح الذي يستعرضه الفيلم. وكأن هناك توازي وتماه بين الأسابيع التي سبقت الحرب الأهلية والأسابيع التي تسبق الانتخابات الآن. أصبحت الشعارات الانتخابية الرئيسية هي “الشيوعية أو الحرية”، وهو الشعار الذي يستخدمه اليمين الإسباني بأطيافه، الوريث غير المباشر للطبقة السياسية والاجتماعية منذ عصر فرانكو. وفي المُقابل، يستخدم اليسار بأحزابه الثلاثة ما بين معتدلة ومتطرفة شعار “الفاشية أو الديمقراطية”. كما قامت إحدى المُرشحات باستخدام تعريف جديد لمصطلح الحرية وهو غير موجود في أي من المعاجم أو كتب العلوم السياسية، اذ تقول إن: “الحرية هي القدرة على تناول مشروب بعد انتهاء يوم عمل شاق، القدرة على الذهاب لمشاهدة مصارعة الثيران أو الذهاب للكنيسة للصلاة أو الشراء أو لقاء الأصدقاء (…) وأن الحرية ليست بالضرورة هي الديمقراطية أو التصويت في الانتخابات “. وتوصيفات أخرى على هذه الشاكلة التي تثير الضحك والأسى في ذات الوقت.

في هذا السياق يبدو “الثور الصغير” صالحًا كمقاربة للماضي وأيضًا قراءة لمُستقبل سيتحقق بعد أكثر من ثلاثين عامًا على إنتاجه.

بعد موت الديكتاتور فرانكو، وبدء عملية التحول الديمقراطي في إسبانيا، قام المخرج لويس جارثيا بيرلانجا بإخراج مجموعة من الأفلام تصف هذه اللحظات بالغة الحساسية مثل: “البندقية الوطنية”، 1978، و”الإرث الوطني” 1981، و”الوطني 3″ 1982، الذي يتناول الأيام التي تلت محاولة الانقلاب العسكري في فبراير 1981، ورد فعل أفراد العائلة الأرستقراطية التي تظهر في الفيلمين السابقين، حيث يخشون من فوز الاشتراكيين واليسار في الانتخابات العامة، فيقومون ببيع ممتلكاتهم ليفروا بالمال إلى فرنسا.

أما فيلم “الثور الصغير”، 1984، فيعود في التاريخ إلى نقطة البداية في المشكلة الإسبانية المعاصرة، وهي الحرب الأهلية. ولا يطرح تساؤلات مباشرة بمصطلحات سياسية أو فكرية حول هذه الحرب ليس لأنه فيلم كوميدي، ولكن لأنه فيلم “ذكي”، إذا أمكن إطلاق هذا التوصيف على عمل فني. فالكوميديا في هذا الفيلم قائمة على إبراز الفوارق، وليس المفارقات أو التناقضات، بين طرفي الحرب الأهلية: الجمهوريين و”إسبانيا فرانكو الوطنية” كما كان فرانكو يُطلق عليها.

في الدقائق الأولى من “الثور الصغير” يقوم ضابط الصف في الجانب الجمهوري باستخدام مكبرات الصوت لتهديد الانقلابين بمنع تبادل التبغ وورق التدخين إن استمروا في الاستفزاز بالإعلان عن الاحتفال الكبير الذي يعدون له في القرية القريبة.

ورغم أن التبادل أو المقايضة ممنوعان مع الفاشيين، كما يقول مندهشًا أحد المجندين الجدد، إلا أن ضابط الصف يطالبه بالصمت، وإلا سيحلق شعره. ويشرح له أنهم يمتلكون ورق تدخين، لكنهم ليس لديهم تبغًا، وفي المُقابل يمتلكُ الفاشيون تبغًا لكنهم يفتقرون الى ورق تدخين، وعندما تتم المبادلة يدخن الجميع.

وقد يبدو هذا الطرح تدشينًا لفكرة “إسبانيا الثالثة” التي تبناها مثقفون وسياسيون أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، ومنهم “خوسيه أورتيجا إي جازيت” ورئيس الجمهورية الإسبانية الثانية، نيثيتو آلكالا ثامورا، الذي ترأس الجمهورية بين ديسمبر 1931 وأبريل 1936، حيث تم عزله في البرلمان بعد تصويت من جانب اليسار الأكثر تطرفًا، لتندلع الحرب الأهلية بعد شهور قليلة.

هذا المصطلح “إسبانيا الثالثة”، يعني عدم الوقوف بجانب أي من طرفي الحرب، لكن بعد سقوط الديكتاتورية، وخصوصًا في الألفية الجديدة، تبنَّت بعض الأصوات الأكاديمية وصفوة المثقفين فكرة عدم وجود طرف محايد في الحرب الأهلية، لأن كل الأفراد سواء بشكل مُباشر أو غير مُباشر، وقع عليهم الضرر أو تعاونوا مع أيٍّ من طرفي الحرب، وهذا ينفي منطق الحياد حتى وإن كان رغبةً شخصية.

1985 – La Vaquilla – tt0090250 – Argentino

ولهذا فلا يُعتبر فيلم “الثور الصغير” تعبيرًا عن الحياد أو تجسيدًا لوجود هذه الكتلة البشرية أو الفكرية التي لا تقف على أي من الجانبين، وإنما تبوح حواراته بالغة السرعة بالخط الفكري للعمل وانحيازاته منذ اللحظات الأولى: تجسيد دقيق وأمين للأوضاع وللبشر وتحايلهم على الظروف في ظل الحرب. وانتقاد مباشر للعيوب والمشاكل التنظيمية والهيكلية في الجانب الجمهوري، في مقابل “الضبط والربط” في جانب الإنقلابيين.

وفي أثناء عملية التبادل الأسبوعية لورق التدخين والتبغ، يقترح جندي من الجانب الفاشي على ضابط الصف الجمهوري والشاويش الفاشي أن يتم استبداله بجندي الجمهوري، لأن عائلته تعيش في جانب الجمهوريين، بينما خطيبة الجندي الجمهوري تعيش في جانبهم. بالطبع ينتهي الأمر بصفعة وتأسي رجلا العسكرية النظاميين على عدم وجود روح حربية أو انتماء أو وطنية لدى المجندين.

وبحبكة مُحكمة وتفاصيل دقيقة في الصورة والحوار، تصنع الفارق مع الأفلام الكوميدية، ينتهي الأمر بوضع خطة لعبور خط النار والاستيلاء على الثور الصغير الذي ينوي الفاشيون استخدامه في مُصارعة ثيران للهواة، كإحدى فقرات الاحتفال الكبير المزمع عقده.

هنا تظهر المفارقات المُضحكة المُبكية لدى الجانب الجمهوري: ضابط الصف النظامي، الذي أمضي حياته العملية كرجل عسكري، يضع خطة أساسها أحد أبناء القرية، ويطلب مسدسا بكاتم للصوت وأربعة رجال أقوياء لحمل الثور بعد قتله. لكن الضابط، ورتبته تعادل رتبة الرائد، يقترح استخدام قنابل يدوية والبحث عن جزار بين الجنود ليقوم بتقطيع الثور إلى أجزاء. هذا الرائد كان في الأصل حلاقًا، وما زال يحمل ماكينة جز الشعر في جيبه ليهدد بها الجنود إن عصوا الأوامر. رغم غياب المنطق، ولأن الجانب الجمهوري كان يفتقد للكوادر النظامية أثناء الحرب، كان منح الرُتب يتم بُناءً على الولاء وليس الكفاءة، يفرض الضابط رأيه، بل ويقرر حمل مُصارع ثيران لقتل الثور بدلًا من استخدام الأسلحة كالمسدسات أو القنابل. بالإضافة لوجود مُساعد قس سابق في البعثة ليساعدهم في حالة الوقوع في مأزق مع الفاشيين المتدينين بطبعهم.

المشاهد في القرية الواقعة تحت سيطرة جيش فرانكو ترفع من توتر أحداث الفيلم وإيقاعه السريع. بداية من الجندي، ابن القرية، الذي يقوم مقام الدليل، لكن بدلًا من الذهاب مُباشرة إلى الحظيرة التي يوجد بها الثور لقتله والعودة قبل شروق الشمس، يقود الفرقة لرؤية الحقول الخاصة بعائلة خطيبته، والتي دمرتها مدفعية الجمهوريين، وهكذا يفقدون ثلاث ساعات ثمينة، فتوشك الشمس على الشروق ولم يصلوا للحظيرة. وبعد ذلك يجبن مُصارع الثيران عن مواجهة الثور الصغير مُتحججا بأنه مُرَوَّض بالفعل، ولن يخطو خطوة دون ثقة بالشخص الموجود أمامه.

وينتهي الأمر بالجنود الجمهوريين بمقابلة جنود وقادة فاشيين في مشاهد عديدة، تورطهم جميعًا، والأهم من ذلك تجعل كلٌ منهم يعيش جزءًا من حياته خارج الحياة العسكرية: الضابط الحلاق ينسى نفسه عندما يرى أدوات حلاق القرية، حينما ذهبوا بحثًا عن علاج لجرح أحد أفرادهم، ويعرض حلاقة ذقن قائد الجيش الفاشي. الجندي من أبناء القرية يكتشف أن خطيبته قد هجرته وأنها، بمباركة أمها، تقيم علاقة مع أحد ضباط فرانكو وتوشك على الزواج منه. مُساعد القس ينقذ المجموعة عندما يتم إلقاء القبض عليهم في بيت دعارة، حيث يستخدم خطاب ندم وتوبة لا يصدر عن شخص عادي وإنما من شخص عليم بأمور الدين، ويشارك في المسيرة الدينية التي تشهدها القرية، تحت إشراف الضابط/القس. ومُصارع الثيران يلتقي بأحد أصدقائه ورفاق العمل القدامى، وبما أنهم متنكرون في زي جنود فاشيين، فيجد نفسه مُضطرًا لمصارعة الثور أمام كل القرية والقائد العسكري والارستقراطية الدينية والمالية، وللمفارقة ينجح في هذا. وكما يقول ضابط الصف مُتألمًا، فالسبب في نجاحه وجود “ضبط وربط” لدى جنود فرانكو، فتعلله بالتلبك المعوي وأن الثور مُدجن، لا يجدي شيئًا إزاء صرامة الشاويش الذي يأمره بالاتجاه إلى الحلبة وإلا تعرَّض لمحاكمة عسكرية. وضابط الصف نفسه يضطر لحمل الماركيز على ظهره لعبور الباب الضيق في برج الكنيسة، لأن الماركيز يستخدم كرسيا مُتحرك ا ولم يكن ممكنا صعود السلم به بسبب حجمه.

وعلى المستويين الفكري والفني، وبالمنطق الدرامي أيضًا، لم يحتو فيلم “الثور الصغير” على شخوص مؤدلجة زاعقة، سواء كانت رئيسية أو هامشية. على العكس، فإن حوارات وشخوص الفيلم تكشف عن محاولة للتعايش والتكيف مع الوضع القائم خلال الحرب، وهو ما سيستمر خلال أربعين عامًا تقريبًا من ديكتاتورية فرانكو. الإشارات الأغزر في الفيلم تتناول العوز والفقر وشظف العيش للناس، للشعب، لإسبانيا ذاتها. فالصراع بين الطرفين على الثور الصغير، وهو رمز صريح ومُباشر لإسبانيا كبلد، أدى إلى هوس الرغبة في الانتصار والقتل، بالتوازي مع إهمال البلد. ينتهي الأمر بالثور مطعونًا وتائهًا ثم ملقيًا على الأرض في المنطقة الفاصلة بين الجانبين المُتحاربين. ورغم محاولات الجانبين للاستيلاء على الثور، إلا أنه يموت، ويظل في مكانه لتأكله النسور ويتحول إلى هيكل عظمي.

وهكذا يبدو أن التاريخ يعيد نفسه عبر الفيلم: لم يعد هناك طرفان متنافسان، وإنما عداوة، وكل طرف، كما في الفيلم، يريد الانتصار من أجل “الشعب والبلد”، حتى إن أدى هذا إلى تدميرهما.

 عن طاقم عمل الفيلم

 

 البطولة في هذا الفيلم جماعية، حيث يظهر جنود الجانب الجمهوري معًا في معظم المشاهد، والحوارات بينهم تلقائية في اندفاعها، دون أن منح مساحة أكبر لأحد الشخوص على حساب الشخصيات الأخرى. لكن الاسمين الأبرزين بين أبطال الفيلم هما “ألفريدو لاندا” في دور ضابط الصف، و “خوسيه ساكريستان” في دور الضابط الحلاق. الأول ممثل كوميدي من الطراز الأول، شارك في هذا العمل بعد مسيرة طويلة في الأفلام الكوميدية الخفيفة. لكن إدارة المخرج بيرلانجا للممثلين وتحكمه المُعتاد في إيقاع أفلامه مما يخلق التشويق والإثارة، جعلاه يقدم “ألفريدو لاندا” بشكل مختلف، فهو قادر على انتزاع الابتسامات والضحكات رغم أنه يتحدث بمنتهى الجدية، بل والغضب أحيانًا. وشخصية ضابط الصف الجادة، الذي أمضى حياته كعسكري نظامي جاءت متسقة تمامًا مع أداء الممثل الذي لم يبتسم مرة واحدة طوال الفيلم، وإنما كانت المواقف التي يواجهها هي ما تثير الضحك.

في المُقابل، هناك “خوسيه ساكريستان”، نجم الكثير من الأعمال السينمائية بدءًا من سبعينات القرن الماضي، والذي لم يُعرف كممثل كوميدي مُطلقًا، وإنما كان يبرع غالبًا في تقديم شخصيات مثقفة أو فكرية، رغم مشاركته في بعض الأعمال الخفيفة. بمنتهى الجدية والحدة أيضًا، لا يتوقف الضابط عن إخراج ماكينة الحلاقة من جيبه من حين لآخر مهددًا جنوده إن لم يتبعوا النظام ويطيعوا الأوامر. وهذا مما يُحسب للمخرج، حيث قدَّم فيلمًا كوميديًا دون لجوء الشخصيات للنكت والمزاح أو لتعبيرات وجه مُبالغة. وإنما كانت الكوميديا قائمة على المفارقات والمواقف دائمًا.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى