تجديد ذكرى عميد الأدب العربي

إيهاب الملاح صحافي وناقد وباحث في التراث الثقافي، شديد الجدية في ما يكتب من مقالات ودراسات، يتابع بها الحياة الأدبية والثقافية. أصدر في الأسابيع القليلة الماضية ثلاثة كتب مهمة هي «على أجنحة السرد» الصادر عن منشورات أبيدي، وهو كتاب جامع لمقالاته، التي سبق ونشرها في الصحف والمجلات، وقسمها بشكل فائق العلم، بين القصة القصيرة والرواية والتيارات الإبداعية المختلفة في القراءة والكتابة، ونماذج من هموم الرواية وشجونها. وكتاب رائع آخر هو» سيرة الضمير المصري – معالم في تاريخ الفكر المصري الحديث».
صدرت له من قبل كتب أخرى مثل شغف القراءة وغيرها.. كلها كتب تضع القارئ وسط الثقافة المصرية وهمومها، والثقافة العربية أيضا وقضاياها الكبرى.
كتاب «طه حسين ـ تجديد ذكرى عميد الأدب العربي» صدر في إبريل/نيسان الماضي عن دار الرواق. بعد أن تقرأ الكتاب تجد نفسك تتساءل ماذا يمكن أن تقرأ أيضا لتعرف عن طه حسين؟ وليمة من الفكر والنقاش من أول حياته ونشأته، إلى وفاته، مرورا بدراسته في الأزهر والجامعة في أول ظهورها، ثم سفره للدراسة في فرنسا وحصوله على الدكتوراه وعودته، وعلاقته بمن حوله من الكتاب والقراء والتلاميذ النجباء، الذين تركهم خلفه، وقضايا الفكر الكبرى التي واجهها وواجهته، ورحلة بين كتبه، وما نشر في حياته من مقالات لم يعرفها أحد وبعد حياته، وطبعا قصته مع زوجته، والحب الذي امتد لأكثر من خمسين سنة، وكتابها الوحيد «معك» الذي كتبته بعد وفاته وترجمه بدر الدين عرودكي.
يلخص إيهاب الملاح كتابه في التقديم بقوله «ما زلت عند ظني واعتقادي أن من أجلّ مهمات الكُتّاب والمثقفين – في الأمّة – ضرورة الوعي بقيمة صنَّاع ثقافتها والداعين إلى نهضتها وتقدمها وارتقائها إلى مكانتها التي تليق بها بين الأمم».
بعد المقدمة الضافية وبعد الإجابة على سؤال، لماذا نجدد ذكراه؟ بأنه أكبر من دعا إلى تقدم الأمة في التعليم والثقافة والسياسة وغيرها، تبدأ الإطلالة التي تتصور أنها تاريخية وهي كذلك، لكنها أيضا موضوعية، لا تبتعد بما أثير فيها عن حياتنا المعاصرة، ووراءها بحث وجهد عظيمين. تكون الإطلالة على مراحل تكوينه بتفاصيل ثرية، كانت أربع مراحل، كما رآها كل من سجل سيرة العميد. كتاب «الأيام» في جزئه الأول يصور السنوات الأولي في حياة الشاب طه حسين منذ ميلاده عام 1889 إلى التحاقه بالأزهر عام 1902. في هذه السنوات الثماني، جمع طه حسين ذخيرته الأولي من الأدب العربي، ووصلت إليه النزعة العقلانية التي أشاعها الإمام محمد عبده. مرحلة تكوينه الثانية 1910-1920 بدخوله الجامعة، حيث درس على يد مستشرقين أجانب أبرزهم كارلو ناللينو المستشرق الإيطالي في الأدب العربي، والمستشرق الفرنسي ديفيد سانتلانا، الذي أسمعه ما هو جديد عليه في الفلسفة الإسلامية، وكيف أنهى طه حسين أطروحته التي نشرت بعد ذلك بعنوان «في ذكرى أبي العلاء» وكان أول كتاب للجامعة المصرية، وأول أطروحة فيها نالت جائزة علمية، فقررت الجامعة مكافأته بإرساله في بعثة إلى فرنسا، للحصول على الدكتوراه. حياته في مونبلييه وظهور سوزان بريسو، التي حملت اسمه سوزان طه حسين وقصة حبهما وزواجهما، وكيف في فرنسا أحب الأدب اليوناني. لقد عاد منها حاملا الدكتوراه، واكتشاف اليونان أدبا وتاريخا وفلسفة، واكتشاف وحدة الحضارات والقيم الراقية، وتعمق الإيمان بالعقل والحرية وحقوق الإنسان. تأتي المرحلة الثالثة 1920-1930 كمرحلة نضوج عرف فيها أن رسالته هي قيادة المثقفين المصريين والعرب عامة، في اتجاه العقلانية والحرية، وحياته بين المثقفين والأحزاب، وفتح باب الاجتهاد في البحث العلمي، وظهورمنهج الشك الديكارتي، وفيها وقعت أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» التي انتهت بحفظ القضية بواسطة رئيس النيابة المثقف، الذي لم ير نية سيئة للكاتب في دراسته للشعر الجاهلي، وكيف رآه منسوبا إلى العصر الجاهلي بينما هو بلغة ما بعد ذلك.
المرحلة الرابعة وفيها أزمات كثيرة مثل، استقلال الجامعات، وكتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي أصدره عام 1938 وما أثاره وكيف تولى في آخر المرحلة وزارة المعارف عام 1950 في حكومة الوفد، وما فعله من مجانية التعليم وتشجيع افتتاح جامعات ومدارس جديدة. يدخل بعد ذلك وبإسهاب في علاقته بأساتذته في الجامعة، وبتفصيل أكبر مما مضى، ويكون كارلو ناللينو نموذجا، ثم كما حدث معه ومع ناللينو، صار هو مع تلامذته، ثم صفحات عن طه حسين في عيون الآخرين مثل نجيب محفوظ وسوزان زوجته، ثم سامي الكيالي الشاعر والأديب السوري، ثم سهير القلماوي، ثم لويس عوض، ثم ما فعله عبد الرشيد الصادق المحمودي من جمع لتراث طه حسين المكتوب بالفرنسية، والغائب عنا وترجمته. بعد هذه الرحلة المشوقة الممتلئة بالمعلومات، يدخل إلى أعمال طه حسين ويبدأ بالإسلاميات مثل «على هامش السيرة» و»الوعد الحق» وغيرهما مثل «مرآة الإسلام» و»الفتنة الكبرى» و»الشيخان» في ما بعد، وكيف كانت الإسلاميات رد فعل لمجتمع أغلبه متدينون مسلمون، ويتجاهلون الحضارة الإسلامية بتاريخها ورجالها، ورغم ذلك فمعظم هذه الدراسات لا تزال مرفوضة من المحافظين والتقليديين.
«على هامش السيرة» تصور ملحمي لمجموعة حاشدة من النماذج البشرية والأخلاقية والروحية العظيمة التي صنعتها رسالة الإسلام، أما الوعد الحق فهو على صغره تصور بارع لرسالة الإسلام في العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان والمساواة، وهكذا كان اختياره لنماذج كتابه. المعركة في رحاب الثقافة وهي رؤيته لمستقبل الثقافة في مصر، التي يجب أن لا تنقطع عن البحر المتوسط، وليس معنى هذا أن البحر المتوسط ضد العروبة، أو تقاليدنا التاريخية، لكنه روح العصر. ثم تأتي رحلة التكفير له، التي بدأت مع كتابه «في الشعر الجاهلي» التي زادت مع كتبه الأخرى وهكذا. رآه الإخوان المسلمون واسماؤهم كثيرة كافرا خارجا عن الملة، وهناك أيضا من لاكوا كلاما لا معنى له عن ميله للصهيونية، منه أنه كان رئيسا لتحرير مجلة «الكاتب المصري» التي كان صاحبها الأخوان المصريان اليهوديان هراري، وينسى من قال ذلك كم كان من اليهود في مصر ولم يكونوا مع إسرائيل، وشاركوا في النهضة والحياة السياسية، بل ينسي أن يدرس ما نشرته المجلة من مقالات رائعة، بل وينسي أن يقرأ طه حسين نفسه. إجابات عن أشياء مجهولة مثل هل ترك طه حسين رواية، وأبحاث استقصائية قام بها وإجابات على كل الأسئلة الغامضة، بحيث تشعر أن لا شيء بقي ليكتب فيه أحد عن طه حسين. ثم ملحق بأعمال طه حسين وتقسيمها بين الفكر والإبداع، وموجز عن كل منها، ونصوص وصور لبعض كتابات طه حسين مثل كلمته في احتفال دار المعارف باليوبيل الذهبي عام 1941، وله قصة معها من أجمل القصص في الكتاب، وتصديره لطبعتها من «كليلة ودمنة» وتقديمه لكتاب أستاذه كارلو ناللينو «تاريخ الآداب العربية من الجاهلية حتى عصر بني أمية» ورسالة شخصية منه إلى تلميذته سهير القلماوي.
ونختتم المقال برده على من اتهموه بالبورجوازية، وكان الكاتب رشدي صالح عام 1950 في مقال له في مجلة «الفجر الجديد» يفند كل ما قيل ويلخصه «للكاتب أن يصفني بما يشاء، إلا أن أكون ارستقراطي النزعة، أو بورجوازي التفكير، وإذا لم يكن بد من أن أبين للكاتب عن مذهبي في الحياة السياسية والاجتماعية، فليعلم أني لا أحب الديمقراطية المحافظة، ولا المعتدلة، ولا أقنع بالاشتراكية الفاترة، انما أياسر ـ من اليسار ـ إلى أقصى ما أستطيع، لكن هذه قصة أخرى كما يقول الشاعر الإنكليزي كبلنج. ومن يدري لعل حظنا من حرية الرأي أن يعظم ويتسع في يوم من الأيام، ويومئذ نستطيع ان نقول كثيرا». وأنهي أنا المقال بالقول، لا يزال حظنا من حرية الرأي قليل يا سيدنا العظيم.

“القدس العربي”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى