أوديب في الطائرة

علاقتي بقراءة الرواية الآن تختلفت عن ذي قبل. أقرأ في الكتب الفكرية أكثر في محاولة للإمساك بالعقل أو استعادته وسط ما حولي. لكني تشجعت لأقرأ رواية «أوديب في الطائرة» للكاتب الكبير محمد سلماوي لأكثر من سبب. الأول أنها رواية قصيرة أو «نوفيللا» في مائة وعشرين صفحة من القطع الصغير. الثاني أن كتابات محمد سلماوي في الرواية قليلة، فهو متعدد الاهتمام بين الرواية والمسرح، فضلا عن أنه يغامر في موضوعاته وشكلها. الثالث هو المودة القائمة بيننا عبر السنين ولا أخجل من قول ذلك.
الرواية صادرة منذ أسابيع عن دار «الكرمة» للنشر بالقاهرة. عنوانها جاذب يوحي بمغامرة جديدة وهي كذلك فعلا. تبدأ في الفصل الأول بأوديب في الطائرة يصل إلى مطار السجن الحربي، وينتظره الجنرال «ديتر» رئيس أركان الجيوش، لكن أوديب لا ينزل. ينزل حارسه الشخصي ويخبر» ديتر» برفض الملك أوديب النزول. صار أوديب في عصرنا الآن، وهذا هو جديد الرواية المثير. نمشي معها حتى الفصل الأخير، الذي فيه ينزل أوديب موافقا على أن يدخل السجن الحربي. بين الفصل الأول والأخير نعرف أن ما حل بطيبة من لعنات بسبب الطاعون والفساد، جعل الشعب يخرج في مظاهرات ضد أوديب، ولا يتنازل عن خلعه من الحكم. تدور الأحداث والنقاش بينه وبين رجاله في ذلك، وبصفة خاصة كريون رئيس الجيوش وأخو جوكاستا زوجته وتوبياس رئيس مجلس الشوري. يحتل الحوار معهم وخاصة كريون مساحات مهمة، فنعرف كيف أن أوديب هو صاحب «الضربة الأولى» على إسبرطة وهو الذي هزمها، بعد أن كانت سبب بلاء طيبة. لا يعرف سببا لما أثار المظاهرات ضده في البلاد غير من حوله الذين يعتبرهم قد خانوه، وهنا يظهر تريسياس كاهن معبد أبولو في الأسطورة، الذي يريد أيضا من أوديب أن يستجيب للعقاب فهو سبب اللعنة، ويراه أوديب عجوزا مخرفا. يرون أن على أوديب انتظار قرار زيوس كبير الآلهة، في المعبد الذي يطل على أكبر ميدان للتظاهر. يأتي القرار حاملا الأسباب القديمة للأسطورة، أن أوديب قتل أباه لايوس وهو لا يعرف، وتزوج أمه جوكاستا وهو لا يعرف، وأنجب منها ابنتيه، ومن هنا جاءت اللعنة التي حلت بالبلاد. خلال ذلك يأتي الميدان وقصة حب «هيباتيا» و»بترو» وزواجهما في الميدان – حدث ذلك كثيرا أثناء ثورة يناير- وكيف أنجز بترو فيلما وثائقيا عظيما عن الثورة والثوار، وتم المونتاج له في معمل تصوير ليون. أحالني اسم ليون إلى المصور الأرمني فان ليو، الذي كان له استوديو للتصوير في وسط القاهرة قريبا من ميدان التحرير، وكان اسمه الحقيقي ليون بويادجيان، وصور عظماء الفنانين. يقع استوديو ليون في الرواية قريبا من الميدان الكبير للأحداث، أو ميدان التحرير في ثورة يناير أيضا. تنتهي الأحداث التي وقف فيها الكاتب عند حوارات مهمة بين الجميع، بموافقة أوديب أن ينزل بالسجن الحربي. هنا يثور السؤال. في أسطورة أوديب كان مقدرا له مصيره منذ البداية، وفيها تنبأ تيريسياس أنه سيولد لحاكم طيبة لايوس ابن يقتله، ويتزوج زوجته التي هي أمه دون أن يعرف. وهذا يتحقق هنا. فهل تغفر الرواية للديكتاتور المعاصر، لأن ما جرى كان مقدرا له. ربما أيضا تقول إنه رغم القدر، فلابد من نهاية للديكتاتور. مغامرة أن يمزج الكاتب بين أوديب والديكتاتور حقا، لكنها مغامرة تستحق الوقوف عندها، خاصة أن بناء الرواية وتتابع فصولها، أو مونتاج هذا التتابع، يقدم لك عملا فنيا مثيرا شهيا في قراءته.

** المصدر: جريدة “الشرق”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى