فن البورتريه.. أيقونة التعبير ودنيا المشاعر

فنان البورتريه الموهوب لا يرسم ما يراه.. بل ما يعرفه

يُعد البورتريه مساحة فنية متسعة تألقت بطول التاريخ، وهو يتجاوز الإطار الخارجي للشخصية بما يجعله تعبيرًا عن الانفعالات الداخلية، فهو أيقونة التعبير ودنيا المشاعر يجسد حالات وآفاق وملامح من الروح والصورة إلى الشكل والمعنى: الحزن والفرح، الصمت البليغ والتأمل، التفكير والسخرية، المرح والشاعرية، الابتسام والوقار، وهو يعكس الدهشة والشفقة وحتى الألم والرعب وعدم الرضا والأمل والحنان والحنين بتنوع الوجه الإنساني وثرائه من شخصية إلى أخرى.
ولقد تفاوتت الصورة الشخصية بين الضرورة الفنية والدينية والاجتماعية فكانت هناك صور الفراعنة على الجداريات وفى مجسمات وتماثيل تؤكد عمق الشخصية في الفن المصري القديم.


ومع الفنين الإغريقي والروماني وصلت الصورة الشخصية إلى حد الكمال من الاداء الكلاسيكي، كما تجسدت روح الصين في فن البورتريه قبل وبعد الميلاد. وتمتد الرحلة أيضًا في التاريخ من الفن البيزنطي إلى الفن القوطي وعصر النهضة وفى الفن الحديث باتساع الحركات والتيارات والاتجاهات والمدارس.

الجذور

ترجع جذور فن البورتريه إلى حقب تاريخية سحيقة، فهو من فنون الحضارات القديمة حيث انتعش خاصة في مصر فتبدو جميلة الجميلات “نفرتيتي” في أكثر من وجه أشهرها التمثال الموجود بمتحف برلين، والذي يعرفه العالم أجمع كواحد من أعظم التحف الفنية للتعبير عن الجمال وسمو التقاطيع، وتمثل وجوه الفيوم علامة أخرى في تاريخ الصورة الشخصية، ويرجع تاريخها إلى بدايات القرن الميلادي الأول في العصر الروماني وحتى القرن الثالث، وتنقلنا إلى دنيا من السحر الكوني وآفاق ما وراء المادة.
وفي النحت الإغريقي احتلت الصورة الشخصية مكانة كبيرة من حيث الكمال الكلاسيكي في الاداء. كما في تمثال “أفروديت ” للفنان براكستيلي بمتحف الفاتيكان.
ويشهد عصر النهضة فترة ازدهار من القرن الرابع عشر الى القرن السادس عشر، وهو عصر إحياء وبعث في كل مجالات العلوم والفنون.
وتُعد لوحة “الموناليزا” لدافنشي أيقونة الصورة الشخصية على مر العصور
ويمثل مايكل أنجلو عبقرية أخرى من عبقريات النهضة الايطالية خاصة فيما يتعلق بالبورتريه الديني من الأحجار الصلبة كالرخام مثل تمثال” داود” وتمثال “موسى” الذي يعد بمثابة بركان بشرى يتهدد العصاة، وهو نموذج للقوة الجسدية بملامح الحكمة والوقار والتحفز.
ومن بين فناني القرن السابع عشر يعتبر رامبرانت بحق أشهر من روض الضوء، وله صورة ثنائية مع زوجته الأولى “ساسكيا” وهي لوحة تتميز بالضوء الحالم كما صور ابنه تيتوس وهو يقرأ، أما زوجته الثانية “هندريكا” فقد صورها وهي تخوض في الماء. ولا شك أن الفنان الإسباني جويا بأعماله يمثل مساحة عميقة في فن البورتريه. ومنها صورتيه لدوقة “ألبا ” تلك المرأة وكانت أجمل نساء إسبانيا، وقد صورها في واحدة عارية تمامًا “الماجا العارية” مستلقية على أريكة ذات وسائد، وبنفس الوضع والحركة والايماءة صورها بثيابها حتى أن اللوحتين تبدوان ك وكأنهما نسخة واحدة مع فارق التجرد وارتداء الثياب.


كما تمثل أعمال “فيرمير” مساحة أخرى في الفن الهولندي في العصر نفسه رغم أنه ترك أعمالِا قليلة لا تتجاوز ثلاثين لوحة وذلك لتلف معظم أعماله. وقد تميزت منها لوحة ذات القرط اللؤلؤي.
ولم يكن “هويسلر” بالفنان العظيم كما يقول رمسيس يونان ولكنه كان يمتاز بشاعرية رقيقة وإحساس مرهف، وهو فنان أمريكي عاش بين لندن وباريس، وقد صور والدته برداء اسود فاحم بملامح الوقار تفيض بالشاعرية، وقد بلغ ما بيع من نسخها المطبوعة ملايين النسخ، كما صدرت في طابع بريد أمريكي كرمز للأمومة.
ويمثل الفنان الهولندي فان جوخ حالة شديدة الخصوصية في الفن والحياة.
وكان يعبر في أعماله عن عاطفة صادقة وإحساس بديهي، وذات يوم قطع أذنه وأرسلها إلى فتاة ليل التقاها في حانة، وعبرت له عن إعجابها بأذنه على سبيل المزاح، وقد جسد مع صوره الذاتية العديدة، هذا الحادث بعد ذلك حين رسم نفسه بالضمادة التي كانت تطوق رأسه، وقبل وفاته كان يتردد على الدكتور النفسي جوشيه، ورسم له لوحتين مرتديًا قبعته البيضاء وجاكته الأزرق، وكتب لأخيه ثيو قائلًا: “البورتريه يلهب خيالي وإحساسي أكثر من أي شيء آخر”.

التعبيرية والصورة الشخصية

يُعد الفنان الإيطالي المولد والنشأة “مودلياني” أحد عباقرة الفن الحديث وقد رحل إلى باريس عام 1906 واستقر بحي مونمارتر حي الفنانين الذين مهدوا لثورة الفن الحديث، وأعماله في مجملها تنتمي إلى التعبيرية، وكان يرسم الأشخاص بوجوه بيضاوية مستطيلة على حين تبدو الأعناق أشبه برقاب الأوز في استطالتها وتقوسها، وقد صور حبيبته “جين” في لوحات عديدة بلمسة من الجمال الشاعري في ايماءات متنوعة جالسة وواقفة، وصورها بقبعة عريضة، وبشعرها البنى ينساب طليقًا ليؤكد شخصيتها مع ملامحها الرقيقة.

الآرت ديكو

وتُعد الفنانة البولندية تمارا دى لامبيكا (1898-1983) واحدة من أهم الفنانات العالميات في النصف الاول من القرن العشرين وتمثل أعمالها سيمفونية مرئية تشدو فيها بفن الصورة الشخصية خاصة فيما يتعلق بسحر الأنوثة الطاغية وحيوية الجسد. وتنتمي أعمالها “للآرت ديكو ” وهو اتجاه من الفن الشعبي ظهر في أوروبا في الفترة من 1925 – 1940 وكان له تأثيره على الفنون البصرية مثل الأزياء والفنون التشكيلية.
ووجدت أعمال تمارا إقبالًا كبيرًا من نجوم السينما الامريكية، وربما كان لقرب الشخوص التي رسمتها من شخصية فنانة البوب “مادونا ” صلة كبيرة بمدى تعلق الفنانة الشهيرة بأعمالها واقتناء العديد منها.

بيكاسو وفن البورتريه

“أنا لا أرسم ما أراه ولكن أرسم ما أعرفه”، جملة صغيرة تحمل خلاصة فلسفة بيكاسو الذي يُعد بحق معجزة القرن العشرين، وكان متفردا في كل شيء، خرج إلى آفاق جديدة لم يرتدها الفن من قبل، وفي بداياته انغمس في مرحلة فنية اشتهرت باسم المرحلة الزرقاء، إثر انتحار صديق له فتغيرت نظرته للحياة وانطوى على نفسه في دير من الألوان الزرقاء، يرسم الفقراء والحيارى والغرباء والضائعين والعجائز والعميان، ومن بينها: “الموسيقار الاعمى”، وله صورة شخصية رسمها لنفسة تنتمى لهذه المرحلة “1901” في رداء اسود وخلفية زرقاء حيث يبدو شبيهًا بقديس له نظرة متأملة تشع بالأسى.
وفي حياة بيكاسو سبع نساء بعدد أيام الاسبوع وقد تألقت صورهن بلمسته وجاءت كل واحدة وكأنها تمثل مرحلة فنية في حياته.
وله لوحة لوالدته أبدعها عام 1886 بمسحة من الوقار والحنان وأودع فيها حبه لها.
ولا شك أن دوشامب بأعماله عمومًا قد أسهم في ثورة الحداثة وأحدث انقلابًا في الفن حين أضاف شاربًا للموناليزا.
أما سلفادور دالي، وهو أشهر السرياليين، فيصل إلى ذروة أعماله في الصورة الشخصية حين يصور بيكاسو في صورة تتجاوز كل حدود المنطق، فالوجه في وضع جانبي، ويطل مخ بيكاسو الذي ينطلق منه لسان آخر غير لسانه من الخلف إلى الأمام منتهيًا بملعقة فوقها آلة موسيقية صغيرة.
ولرينيه ماجريت أحد رواد السريالية بورتريهات عديدة من بينها صورة شخصية له باسم “الساحر” صور نفسه فيها بأربعة أيدي، جالسًا على مائدة طعام وهو بكامل مظهره في رداء رسمي.
وله أيضًا صورة شخصية للشاعر الإنجليزي “إدوارد جيمس” نصير السريالية إذ صوره وقد تحول وجهه إلى بقعة متوهجة من الضوء أشبه بلمبة كهربائية تفجرت بالضوء. تأكيدًا على دوره الساطع.

البورتريه والبوب البصري

فن البوب هو الفن البصري الذي يوازى “البوب” في الموسيقى ويمثل بوابة الحداثة، وهو فن العامة ورجل الشارع، وكما يقول محمود بسيوني: دعوة لأن يلعب الفن دوره عند المرأة العاملة وربة البيت والموظف في المصلحة وسائق التاكسي ورجل الشارع عموما، وقد تألقت أعمال الفنان الأمريكي آندى وارهول بنجوم البوب والشخصيات ذائعة الصيت مثل “مارلين مونرو”، و”اليزابث تايلور”، و”الفيس بريسلى” تجاوز الأمر إلى نجوم السياسة مثل “ماوتسى تونج “، و”جيفارا”.
وهناك اثنان من كبار فناني الصورة الشخصية يمثلان عمق الحداثة، وفى الوقت نفسه يمثل كل منهما حالة خاصة تتجاوز الأطر والمدارس، وهما الإنجليزيان: فرانسيس بيكون ولوسيان فرويد.


فتطل وجوه الفنان بيكون علامة على القرن العشرين وانعكاسًا لهذا العصر الذي أصابه التمزق بفعل الحروب، فإنسان بيكون هو انسان الحرب المطحون من جرائها، والذي هزمته الآلة وشيأته الرأسمالية فمشخصاته مطحونة ومتهاوية وممزقة، وهي مسوخ بفعل هزيمة العصر. ولقد أخذت شهرة بيكون تنمو وتتقدم لدرجة تجعله في موضع الإحلال محل بيكاسو، فقد قال عنه الناقد جون ريتشاردستون إن بيكون هو المصور الإنجليزي المعاصر الذي تعطى أعماله بصدق فكرة العالمية.
ووجوه بيكون تمثل مساحة تعبيرية عالية القيمة وفى نفس الوقت تخرج من إطار التعبيرية إلى شكل من أشكال الحداثة يتجاوز النمط السائد ويخرج على المسميات ومثله تمامًا لوسيان فرويد الذي بدأ سرياليًا لكنه انتقل إلى طابع حداثي خاص به، له قانونه المبتكر وعالمه الخاص، وقد صور أمه وصور الملكة اليزابيث بنفس أسلوبه التعبيري المهشم.

ملامح صغيرة: الوطن العربي ومصر

وبامتداد الوطن العربي تظل الصورة الشخصية علامة كبيرة في كل دوله من بداية الحركة التشكيلية المعاصرة وحتى أحدث الأجيال، وهناك أسماء كثيرة منها: الفنان السوري لؤي الكيالي صاحب العديد من الصور الشخصية التي تبدو مفعمة بالمشاعر كما في لوحاته: امرأة -عزلة – التفكير العميق – الرسالة، ولعل ذروتها لوحة “الخياطة “ذات الايقاع اللوني البرتقالي. وأيضا الفنان اللبناني حبيب سرور صاحب مدرسة ذات ملامح كلاسيكية كما في الصورة الشخصية لرجل “عاري”، والفنان السوداني ابراهيم الصالحي رغم تعبيريته الخاصة إلا ان له تقاليد وقيم فنية في الصورة الشخصية كما في بورتريه “سوداني” الذي يغلب عليه الأبيض رمزًا للنقاء في أمامية اللوحة وفي الخلفية.
ويعد الفنان العراقي “فائق حسن” أحد الرموز الكبار وهو صاحب الخيول والفوارس، ومع أعماله التي توحى بالسحر العربي لوحة لحسناء بلمسة تأثيرية صورها حالمة مسترخية. وأيضا فنان العراق جواد سليم له صورة شخصية للشاعرة لُمَيّعة عباس عمارة صورها بنظرة تأمل بجمال واختزال في التفاصيل.
والفنان أحمد بن يسف والذي يعد من أبرز الرموز الفنية في المغرب وتتميز صوره الشخصية بأناقة اللمسة ورصانة الاداء واتزان الإيقاع كما في صورة “الشيخ” بمسحة الوقار بالطربوش والعصا. كذلك فالفنان السوري صفوان داحول قد شكل أسطورته الخاصة في “البورتريه التعبيري” من هذا الديوان المصور للسيدة زوجته نوار التي رحلت بعد صراع مع المرض وهي في عز الشباب، فكان أن تركت له الحزن والذكريات والفرشاة التي أبدع بها صورها في شاعرية واختزال.
أما عن الصورة الشخصية في الفن المصري المعاصر والتي بدأت مع الرواد الأول في الإبداع التشكيلي.
فما زال مختار يعيش بيننا حياة لا يحدها الزمن بعد أن أطلق شرارة الإبداع النحتي المعاصر، وقد تألقت تماثيله للفلاحة المصرية، التي صورها بوجوه عديدة من حاملة الجرة إلى العودة من السوق والقيلولة والحزن والراحة وكاتمة الاسرار وكانت الخماسين بملامح القوة والصمود والجلال. وجاء تمثال سعد زغلول قصيدًا وطنيًا محملًا بالنبض القومي، وله تماثيل عديدة في الصورة الشخصية من بينها تمثاله لام كلثوم و”انا بافلوفا” أعظم راقصة باليه في مطلع القرن العشرين.
وفى التصوير الزيتي يعد أحمد صبري أول رسام وجوه نقل تقاليد هذا الفن عن أساتذته الأوربيين بمدرسة الفنون الجميلة. وتنفرد “الراهبة” رائعة صبري بأسلوب لا نجد له مثيلًا بين لوحاته، فما من لوحة مصرية تشاركها هذا التألق الصوفي والجمال المثالي، وهذا السحر الكوني وحيث تستسلم اليدان على الكتاب المقدس في وداعة وسماحة تسمو الراس في شموخ وكبرياء.
ومن بين رسوم صبري الشهيرة وجه العقاد الذي رسمه عدة مرات، كما رسم تلميذه بيكار بالعود، وأيضًا “ذات المروحة” والتي صور فيها الأناقة والشاعرية مع الدفء اللوني الذي يموج بالأحمر الفوشيا البهيج.
وقد أبدع الرائد يوسف كامل في مناظره الريفية العديد من الصور الشخصية مثل لوحته البديعة وجه فلاحة والتي تتميز بالجمال الريفي الطبيعي البسيط الذي ينجذب اليه كل من يتطلع اليها. أما المرأة في أعمال محمود سعيد فهي باعثة الحياة، ورمز الخصوبة كما في ذات العيون العسلية وذات الجدائل الذهبية وذات الاساور وذات العيون الخضراء.
وموقف محمود سعيد من الوجه الإنساني يدعو إلى الدهشة والتساؤل فهو حين يتناول نساء أسرته على عكس المرأة الشعبية، يخلع عليهن اقصى ما يستطيع من علامات الرقة والتحضر والتعفف والتفاؤل بالحياة.
وتمثل أعمال عز الدين حمودة مساحة شديدة التميز في فن البورتريه وقد ظهر اهتمامه بكل عنصر من عناصر اللوحة، وأيضًا بوضع الموديل وجلسته واختياره لأجمل الأزياء والحلي والمجوهرات والمراوح والدانتيلات، واستخدام رقائق الذهب والفضة كخلفيات للوحاته ومن بين أعماله المعروفة: مدام صيدناوي وفاتن حمامة وهدى شعراوي.
ونطالع الجمال الوضاء وسحر الأنوثة في لوحة بيكار “لولا” وهي فتاه إسبانيه كانت تعمل أمينة مكتبة بتطوان بالمغرب في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي عندما كان عضوًا بالبعثة التعليمية هناك. كما صور بيكار صبي مغربي بالطربوش الأحمر بعيون متسعة ونظرة متألقة، هذا مع صوره العديدة لفتيات وسيدات المجتمع المصري.
وتظل أعمال صبري راغب مسكونة بالمشاعر والأحاسيس في فن الصورة الشخصية بتلك اللمسات التأثيرية القصيرة وأجملها ما قدمه لزوجته حيث صورها مرات عديدة بطول رحلته معها في الحياة ويعد في الحقيقة شاعر الصورة الشخصية. وأخيرًا فتلك كانت رحلة في عالم الصورة الشخصية قليل من كثير من دنيا المشاعر والأحاسيس في الوجه الإنساني.

مجلة فنون الجسرة – العدد 01 – ربيع 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى