هل الووكيزم حركة ثورية أم رجعية؟

ظهرت حركة الووكيزم في الولايات المتحدة في دوائر النضال السوداء تنديدًا بالعنصرية والعنف البوليسي، ثم ما لبثت أن انتشرت انتشار النار في الهشيم، فباتت محل جدل واسع ليس في أميركا وحدها وإنما خارجها أيضا. ولئن عدّها بعضهم حركة ثورية تعيد أمورا كثيرة إلى نصابها، وتدعو إلى مطاردة العنصرية في شتى أوجهها ماضيا وحاضرا، فإن آخرين يرون فيها مجرد أداة مصادرة تتوسل بها الحركات النضالية المعادية للعنصرية لفرض رؤية مخصوصة للعالم؛ ففي فرنسا مثلا يعتقد بعض المفكرين، وحتى السياسيين، أنها تسعى لخلق الانشقاق ووضع أفراد المجتمع في صراع ضد بعضهم بعضًا.
أصل الووكيزم من الإنجليزية woke وتعني “يقظ”، وقد اتّخذت العبارة معنى أيديولوجيّا في العامية الأفروأميركية للدلالة على لزوم الوعي بالمظالم التي تسلط على الأقليات الإثنية والجنسية والدينية، وبكلّ أشكال الميز، وضرورة التجنّد لنصرة تلك الأقليات والدّفاع عنها.
قبل الوصول إلى فرنسا، كان المصطلح قد انتشر فيما وراء الأطلسي في الظرف التاريخي للنضال من أجل حقوق السود. يقول وزير التربية في الحكومة الفرنسية الجديدة باب ندياي، وهو متخصص في التاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة، إن هذا اللفظ العامي رافق العالم الأفروأميركي بداية من الستينات، وذكّر بأن مارتن لوثر كينغ، رأس حركة الحقوق المدنية الأميركية، كان قد حثّ الشباب الأميركي في خطاب ألقاه في جامعة أوبرلين بولاية أوهايو في يونيو 1965، على “أن يظل يقظًا” و”يكون جيلا ملتزما”. بينما يعتقد مؤرخون آخرون أن المصطلح أقدم من ذلك، حيث سبق لمناهضي العبودية وتجارة الرقيق في القرن التاسع عشر، ولاسيما في عهد أبراهام لنكولن، أن استعملوا عبارة “متيقّظ تماما” wide awake.
والعبارة عادت للظهور باحتشام عام 2008 عن طريق المغنية الأميركية إريكاه بادو حيث وردت في أغنية “ماستر تيتشر” عبارة “أظل متيقّظة” I stay woke، ثم في تغريدة مساندة لفرقة الروك الروسية “بوسّي ريوت” عقب صدور حكم بالسجن ضد بعض أفرادها بتهمة “التحريض على الكراهية الدينية”. غير أن عودتها القوية ترافقت مع ظهور حركة “حياة السود مهمّة” Black Lives Matter التي نجمت عن مظاهرات فرغوسن بولاية ميسوري عام 2014 بعد مقتل مراهق أسود يدعى مايكل براون برصاص البوليس. وكان من أثر موجة الاحتجاج العارمة ضد عنف رجال الشرطة التي شملت أغلب المدن الأميركية، ظهور جيل جديد من المناضلين المناهضين للعنصرية على المواقع الاجتماعية، يندّد بالعنصرية المنهجية، ويدعو المواطنين إلى لزوم “اليقظة” ضدّ القمع الذي يشهده السود في الولايات المتحدة. ثمّ رسّخ المصطلحَ شريطٌ وثائقيّ عنوانهStay Woke : The Black Lives Matter Movement صدر عام 2016 ووطّد علاقته النضالية بقضايا السود وشتى الأقليات. ثم انتشر عبر العالم عبر فضاءات نضالية أخرى، كالمواقع الاجتماعية، للتنديد بكل أشكال المظالم التي تتعرض لها الأقليات على اختلاف أصنافها.
في بداية العشرية الثانية من هذا القرن، سمح هذا المصطلح للأقليات بالالتقاء حول تجارب مشتركة عن التمييز في شتى أوجهه، حيث صار الفرد “اليقظ” هو الواعي بالتفاوت الاجتماعي، في مقابل الفرد “النائم” أمام القهر الذي يسلَّط على النساء والشواذ والأجانب… وبصرف النظر عن الكيفية التي أمكن من خلالها للمواقف الفردية أن تتغير، فإن الأشخاص “اليقظين” يعتبرون أن المجتمعات في مختلف أصقاع الدنيا لا تزال تفتقد إلى المساواة، بل إن بعضها لا يزال يصادر حرية الأقليات، حيث يعامل الفرد فيها حسب الوسط الاجتماعي الذي ينتمي إليه، أو لون بشرته أو دينه وجنسه… وفي رأي “اليقظين”، أن التصدي لمظاهر ذلك التفاوت الهيكلي سوف يجعل العالم أفضل.
ولئن اقترن الووكيزم تاريخيا بمقاومة العنصرية تجاه الأفروأميركيين، فإنه اتسع اليوم ليشمل عدة قضايا كبرى، كالنضال ضد العنصرية، وضد العنف الذي تمارسه الشرطة على أساس عرقي، ومكافحة الاحتباس الحراري، والدعوة إلى المساواة بين الجنسين. وهو ما يلخصه باب ندياي في قوله: “يتعلق الأمر بتغيير نمط الحياة وطريقة الإقامة في العالم والتنقل والتعايش على الأرض مع سكانها من غير البشر. كما أن التحديدات الجندرية والهويات الجنسية صارت موضع تساؤل عميق”.
امتدت هذه الظاهرة إلى فرنسا، بوصفها دولة ذات تاريخ استعماري لا يزال يلقي بظلاله على طريقة تعامل السلطة وحتى المجتمع مع الآخر المختلف. ومن الطبيعي أن تقابل تلك الحركة، كسائر التيارات الوافدة، بنوع من الصدّ والشك، حيث اعتبرها اليمين بوجهيه المعتدل والمتطرف نوعا من التوتاليتارية، فيما عبّر دعاة “اللائكية الهجومية” اليسارية عن قلقهم مما يتسم به أنصار الووكيزم من ضيق بالرأي الآخر، وما يشكله موقفهم منه من مخاطر على حرية التعبير. وفي رأيهم أنّها امتداد لثقافة الإلغاء cancel culture التي من بين أهدافها أن تقصي من الفضاء العام كل من يصدر عنه قول أو فعل فيه “إساءة” إلى الأقليات، وكانوا قد ندّدوا بإزالة تماثيل رموز الاسترقاق وإلغاء محاضرات وإقالة مسؤولين من مناصبهم… فالرأي السائد هنا في فرنسا أن الجدل حول العرق المستورد من الولايات المتحدة لا يتماشى مع الكونية الجمهورية التي يحتكم إليها المجتمع الفرنسي، والمعترضون على الووكيزم يعتقدون أن بعض الأفكار الشعبية في أوساط اليسار الراديكالي الأميركي، مثل تنظيم اجتماعات غير مختلطة، والتقاطعية intersectionality (أي تقاطع أشكال التمييز لدى شريحة واحدة)، والجدل حول مسائل الجندر، تسيء إلى النموذج الجمهوري الفرنسي، وتهدد تماسك الوطن. وهي أفكار يعترض عليها حتّى الرئيس ماكرون نفسه، وهو الذي سبق أن ندّد بنظريات العلوم الاجتماعية المستوردة من الولايات المتحدة، ولو أن نسبة ضئيلة جدا من الفرنسيين لا تتعدى 6 في المئة حسب استطلاعات معهد إيفوب تفقه معنى الووكيزم.
وقد استعر الجدل في المدة الأخيرة بين من يعتقدون، مثل بيير فالنتان، أن أيديولوجيا الـ”ووك” تشظّي المجتمع إلى قبائل وتشكل أحد الأخطار الكبرى في هذه المرحلة، وأنها شكل جديد من التعصب باسم القيم التقدمية. وبين من يؤكد، مثل نورمان أجاري، أن أفكار الووكيزم متجذرة في شتى المجتمعات التي عانت ولا تزال الأثنية المركزية الغربية، وأن الحديث عنها لا يقود بالضرورة إلى التفرقة، لأن المجموعة الوطنية في واقع الأمر ليست سوى سردية تخفي سرديات أخرى مشتركة.
يؤكد الفريق الأول أن الووكيزم أيديولوجيا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى تاريخ الفلسفة، وإلى فلاسفة الشك تحديدا، أمثال نيتشه وفوكو ودريدا ودولوز، الذين أبدوا ارتيابا راديكاليا من كلّ معرفة موضوعية. لأن المعرفة، التي توصف بالعلمية، تخفي في رأيهم إرادة هيمنة على الآخر، وخاصة صورة الأقلية في شتى أشكالها. وهو ما عبّر عنه فوكو في “المراقبة والمعاقبة” بقوله: “السلطة والمعرفة متواشجتان”، فكل شيء هيمنة، بما في ذلك اللغة الشفوية التي تبني إن قليلا أو كثيرا إدراكنا للواقع. وهي ثيمة تظهر في كتابات هايدغر، وتظهر أيضا عند دريدا، حيث يبدو التمييز نفسه محل ريبة، لأن كل تفرقة أو تصنيف هو عرَض من أعراض إرادة الهيمنة أو الرفض والإقصاء، ما يستوجب تفكيك التمييز أو التعتيم عليه، فالتحديدات أُطر تقصي بالضرورة. وهذا يقود إلى النسبية الثقافية… ولكن إذا كانت كلّ الثقافات متساوية القيمة، يقول بيير فالنتان، فإن فكر التحرر من التبعية الكولونيالية جعل من الغرب الطرف الأسوأ، وأقصى كل ما هو كونيّ. فضلا عن أن النظرية النقدية للعرق تعتبر الغرب سيئا في جوهره. وفي تقديره أن مفكري الووكيزم يعتبرون أن الهيمنة البيضاء أخطر من الإثنية العرقية لليمين المتطرف، لأن من ميزاته أنه يتحرك على المكشوف. وبذلك انتقل الوسط الأكاديمي من “ما بعد الحداثة” إلى “الووكيزم” بنفس المرجعيات الفلسفية، دون أن يرى في ذلك أدنى مشكلة.
غير أن الفريق المقابل يعترض على هذا التأويل لكونه يحيل على مرجعية أوروبية صرف، والحال أن الفلسفة الغربية لا تسمح بإيضاح الفكر الأفروأميركي الذي يملك جينيالوجيا خاصة وفلسفة بدأت مع الثورة الهايتية التي سيكون لها تأثير على عبيد أميركا الجنوبية، بفضل مناضلين سود دعوا إلى إلغاء العبودية أمثال مارتن دولاني (1812 – 1885) وماركوس غارفي (1887 – 1940) ووليم إدوارد بورغارت دو بوا الشهير بويب دو بوا (1868 – 1963). غير أن هذا التاريخ مغيّب عن الجدل الأكاديمي الأوروبي، الذي يوهم رؤوسه بأن الأميركان من أصول أفريقية أفاقوا في السبعينات، بعد قراءة ترجمات فوكو ودريدا ودولوز. وكأن المسائل العرقية التي رافقت “ما بعد الحداثة” دفعت الأقليات إلى المطالبة بحقها في الاختلاف، والحال أن ثمة تاريخا سياسيا وفكريا خاصا بأميركا السوداء، شمالا وجنوبا، وتاريخ شعب مستعبد وضَع مفاهيمَ ونظرياتٍ على أساسِ ثيولوجيا بروتستنتية في البداية، قبل أن تغذيها مؤثرات أوروبية وأفريقية، وهو ما أطلق عليه سدريك روبنسون (1940 – 2016) أستاذ العلوم السياسية بجامعة سانتا بربرا بكاليفورنيا، التقليد العرقي الأسود، حيث بيّن في كتابه “زمن التقليد الراديكالي الأسود” أن المسألة العرقية تمّ التفكير فيها دائما انطلاقا من ظروفها الاجتماعية، أي العبودية، وفشل إعادة البناء، والميز العنصري، والحبس الجماعي.
والنتيجة، كما يستخلص نورمان أجاري، وجود نموذج ليبرالي يؤسس المجتمع على الحرية ومساواة تشريعية لا تبالي بالاختلافات، ولكن الواقع يخالف ذلك، لأن الفوارق لا تزال قائمة: حيث لا يني السود يزدادون فقرا، ولا تنفك الكليشيهات العرقية تتنامى. ما يشرّع البحث عن نماذج نظرية بديلة مثل النظرية النقدية للعرق، التي تقول إن العرق بوصفه بنية اجتماعية وليس واقعا بيولوجيا هو مفهوم تحليل صائب لوصف المظالم ومكافحتها. ومن ثمّ لا يمكن القول إن النظرية النقدية للعرق لا تخص الفرنسيين، وإنها إشكالية أوجدها الأميركان للأميركان، وإن الووكيزم لا مسوّغ لوجوده أساسا في فرنسا، لأن فرنسا ذات ماض كولونيالي، وقد اقترفت جرائم ضدّ الشعوب غير الأوروبية تفوق ما اقترفه البيض الأميركان ضد السود، فضلا عن كونها الوحيدة التي لا يزال لها حضور رسميّ في القارات الخمس، في بلدان أغلب سكانها من أحفاد العبيد.
وجملة القول، إنه لئن كان صحيحًا أن وضع السود في أميركا والجزر التابعة لفرنسا لم يتغير كثيرا، ما ولد هذه الحركة التي تدعو إلى لزوم اليقظة لإرغام الأنظمة على إلغاء الميز العنصري والتفاوت المجتمعي، فإن الإمعان في مطاردة أشباح الماضي ليس وحده الكفيل بإعادة الاعتبار للسود وحلّ قضاياهم، لأن ثقافة الإلغاء لا حدود لها، وقد تصبح وسيلة للإقصاء، أي أداة لميز جديد، في الاتجاه المعاكس.

مجلة «الجديد»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى