ارتعاد إبراهيم البدئي

الخوف، هو أكثر المشاعر الإنسانية مراوغة وتعقيدًا، وهو انفعال يخضّ الجسد والعقل معًا، فيقشعر له البدن في كثير من الأحوال، ويستنكره العقل في معظمها، وفي (لسان العرب) هو الفزع أو الذعر، وهو كذلك في (القاموس المحيط) و(العباب الزاخر)، وهو في بعض المعاجم ضد الأمن، ونقيض السكينة، وقد يمتد في بعضها الآخر إلى حد أن يصبح رديف القتل أو القتال كما في القرآن الكريم. ويحتاج الأمر إلى أن نتقدم في عملية التعجيم إلى العصر الحديث، حتى نجد شيئًا أكثر تفصيلًا في التعامل مع ذلك الشعور أو الانفعال المعقد، حيث يقول المعجم الوسيط إنه «انفعال فِي النَّفس يحدث لتوقع مَا يرد من الْمَكْرُوه أَو يفوت من المحبوب، والخوف القتال. وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {فَإِذا ذهب الْخَوْف سلقوكم بألسنة حداد} أَي الْقِتَال».

فإذا ما انتقلت إلى المعجم الإنجليزي وجدت الأمر أكثر تفصيلًا، ووعيًا بطبيعة هذا الشعور المراوغة والمخاتلة والاستنكارية في كثير من الأحيان. حيث يُعرّفه معجم أكسفورد الإنجليزي بأنه انفعال كريه أو بغيض ينجم عن تهديد بالخطر أو الألم أو الضرر، سواء أكان المثير له حقيقيًّا أو متخيلًا. ويربطه بمشاعر تبدأ من الخجل والارتياب والشك والخشية والتوجس والتردد والقلق وتمتد حتى الرعب والهول والندم والهياج ويبلغ غايته في النقيضين: التبجيل والتقديس من ناحية، والفوبيا المرضية كالخوف من الأماكن المظلمة أو العالية .. إلخ، من ناحية أخرى. كما أن مترادفات الخوف وأضداده تصل في اللغة الإنجليزية مثلًا إلى 141 مفردة؛ مما يجعله واحدًا من أكثر المشاعر تغلغلًا في النفس الإنسانية، وطبيعة ردود أفعالها لما يصادفها من وقائع الحياة على مدى مسيرتها فيها، إذا ما سلمنا مع علماء اللغة بأن المفردات بنت الحاجة الإنسانية لها، خاصة وأن التعريف الإنجليزي أدخل المتخيل مع الحقيقي في مثيرات الخوف، فوسع بذلك آفاقه.

انفعال فِي النَّفس يحدث لتوقع مَا، يرد من الْمَكْرُوه أَو يفوت من المحبوب. والخوف القتال

ولم تشغل المفردة اللغويين وحدهم، ولكنها نالت حظها من اهتمام الفلاسفة أيضًا، لأن سورين كيركيجارد (1813-1855) الفيلسوف الدنماركي الشهير، له كتاب مهم في هذا المجال. وكيركجارد الذي يعتبره البعض أهم مؤسسي الفلسفة الوجودية، ومن أكثر الذين أسهموا فيما يمكن تسميته بفلسفة الدين المسيحي، من أكثر الفلاسفة انشغالًا بانفعالات الفرد ومشاعره حينما يواجه الاختيارات التي تطرحها عليه الحياة، ومع أنه يؤمن بموضوعية العلم، وضرورة اتباع منهجياته الصارمة في معرفة العالم الواقعي الذي يحيط بنا وملاحظة ظواهره، إلا أنه يجد أن المعرفة الموضوعية وملاحظاتها المحايدة لا تستطيع سبر الذات الإنسانية، أو معرفة طوايا الروح. بالصورة التي ميز فيها بين نوعين من الحقيقة: الحقيقة الموضوعية والحقيقة الذاتية. وأن هذا النوع الذاتي بحدوسه المرهفة والمعقدة، واستقصاءاته للحدود ما بين اللاهوت والناسوت، هو القادر وحده على استكشاف فضاءات الروح الإنسانية وما يشغلها من قضايا حول الإيمان والوجود.

سطوة الخوف الغاشمة تصيب الفرد بشيء أقرب إلى الشلل وفقدان القدرة على الرد أو التصرف

وينتمي كتابه المهم (الخوف والارتعاد)[i] وله بدوره عنوان فرعي دال: استقصاءات فلسفية في الإيمان والأخلاق، إلى هذا المجال. وهو كتاب يحاول فيه أن يفهم بعض ما دار في نفس سيدنا إبراهيم من مشاعر الخوف والقلق حينما تلقى الأمر الإلهي بالتضحية بابنه. فلا بدَّ أنه ارتعد لأمر من هذا النوع!، واقشعرَّ له كل بدنه؛ لأن هذا الأمر وضعنا إزاء ما يمكن تسميته بالخوف البدئي أو الأولي الذي يتناول أيضًا أهم العلاقات الإنسانية: علاقة الأب بابنه ووريثه من ناحية، وبربه وإلهه من ناحية أخرى، خاصة وأننا في قصة إبراهيم، مهما كانت النسخة التي وصلتنا بها – التوراتية منها والقرآنية – بإزاء ابنه وريثه الذي انتظر مجيئه طويلًا، والذي سيعمّر الأرض من بعده بالإيمان.

يُعرّفه معجم أكسفورد الإنجليزي بأنه انفعال كريه أو بغيض، ينجم عن تهديد بالخطر أو الألم أو الضرر

هل يقوم بهذه المهمة على ما فيها من قسوة وصعوبة على نفسه تقترب من حدود الاستحالة؟ أم يرفض القيام بها، متذرعًا بأن «لا تقتل نفسًا بريئة» هي من أهم الوصايا الإلهية العشر؟ وهو خيار يطرح -كما يقول العنوان الفرعي للكتاب الإيمان في مواجهة الأخلاق، وهي معضلة ردته إلى هيجل وإلى كثير من الأعمال الفلسفية التي تناولت الأخلاق والجماليات والقيم الإنسانية المختلفة.

بعض الأساطير الهندية تخبرنا بأن الغضب هو خوف متنكر، وأن الوعي بذلك هو الطريق إلى أن تكسره

ويكشف لنا الكتاب كيف أن إبراهيم -الذي ملأ الخوف نفسه- احتفظ بحيرته ومخاوفه لنفسه، ولم يفض بها إلى زوجته أو إلى أي من أفراد أسرته أو رفاقه طوال تلك الرحلة من أور وأرض الكلدانيين إلى أرض كنعان، حسب الحكاية كما يرويها الكتاب المقدس؛ والتي تختلف كثيرًا عن تلك التي يرويها لنا القرآن الكريم.

يجعل كيركجارد الإيمان ملاذًا من الخوف على صعيد الحقيقة الذاتية، لأن الإيمان بالطبع هو مصدر الأمن والسكينة وهما النقيض الكامل للخوف

وقد اتبع كيركجارد بالطبع تفاصيل رحلة الكتاب المقدس، ومن هنا جعل إبراهيم يعيش هذا الخوف المعقد وما ولّده من حيرة عميقة على مر أيام طويلة، ويتقلب معه بين مختلف تجليات الحقيقة الموضوعية في تعاملها مع الحقيقة الذاتية؛ فعظمة إبراهيم نابعة من هذا الصراع الداخلي مع نفسه ومع ربه، والذي يملؤه بالخوف الذي يحرمه من النوم أيامًا. الخوف من أن يكون قاتلًا، وقاتلًا لأقرب الناس إليه، أي ابنه! وكيف يمكن احترام قاتل ناهيك عن تقديسه كمؤسس لديانة توحيدية جديدة؟ أم أن الواجب المطلق -مهما تعملق الخوف أو استأثر به- هو لله وحده؟ وهل كان موقفه أخلاقيًّا في إخفاء هذا كله عن زوجته وعن ابنه وعن العازر؟ إن خوفه من أن يبوح بهذا كله لهم هو خوفه المقيم، وهو سبيله للخلاص العسير في آنٍ.

يجد كيركيجارد أن المعرفة الموضوعية لا تستطيع معرفة طوايا الروح، بالصورة التي ميز فيها بين نوعين من الحقيقة؛ الحقيقة الموضوعية والحقيقة الذاتية

هكذا تتوالى الأسئلة التي تمد جذورها في الخوف من ناحية، وفي حرية الفرد في الاختيار كأساس لوجوده من ناحية أخرى، حتى انتهى فيها كما يقول لنا إلى نوع من الإذعان الكامل، والإذعان من مترادفات الإسلام، وهو ما يقترب به من القصة الإسلامية دون أي وعي بتبنيها؛ حيث يقول: «إن الإذعان الكامل هو المرحلة الأخيرة قبل الإيمان، ولذلك فإن من لم يعش هذا التحول لم يؤمن؛ لأن الإذعان الكامل هو ما يجعل الفرد واعيًا بوجوده الأبدي، وهذه هي المرحلة الضرورية لوعيه بوجوده وامتلاكه لهذا الوجود من خلال الإيمان».

في كتابه المهم (الخوف والارتعاد) يحاول كيركيجارد أن يفهم بعض ما دار في نفس سيدنا إبراهيم من مشاعر الخوف والقلق حينما تلقى الأمر الإلهي بالتضحية بابنه

هنا يجعل كيركجارد الإيمان ملاذًا من الخوف على صعيد الحقيقة الذاتية، لأن الإيمان بالطبع هو مصدر الأمن والسكينة وهما النقيض الكامل للخوف. ويطرح عالم الروح الداخلي في مقابل عالم الواقع الخارجي بما ينطوي عليه من أخلاقيات وجماليات استقى الكثير منها من أعمال هيجل في هذا المجال، لكن ملاذات الخوف، والاستجابات الطبيعية التي يولدها، تتعدد كثيرًا على صعيد الحقيقة الموضوعية، حيث تربطها الثقافة الإنجليزية مثلًا بأربع مترادفات مسجوعة دالة: هيFight/ Flight/ Freeze/ and Fawn والتي يمكن ترجمتها إلى القتال -وقد وجدنا أنه من مترادفات الخوف في اللغة العربية في نوع من المواجهة الفورية للموقف دون أي دراسة لمختلف جوانبه؛ والهرب أو الفرار وهو نقيض القتال ولكنه من أكثر الاستجابات عفوية إزاء ذلك الانفعال/الخوف؛ ثم الجمود وهو ما يكشف عن سطوة الخوف الغاشمة التي تصيب الفرد بشيء أقرب إلى الشلل وفقدان القدرة على الرد أو التصرف، وهو ما يؤكد غياب سيطرة الفرد على الموقف؛ وأخيرًا الزعم أو التصنع، وهو الحالة التي تؤكد طبيعة الخوف المراوغة والاستنكارية، لأنها تنطوي على نوع من نكران الخوف ذاته، وتصور أنه شيء آخر.

النفس الإنسانية التي جُبلت على المكابرة لا تحب الاعتراف بالخوف؛ لأن فيه اعترافًا بالضعف والهوان

وفي هذا المجال نجدد أن بعض الأساطير الهندية تخبرنا بأن الغضب هو خوف متنكر، وأن الوعي بذلك هو الطريق إلى أن تفثأه (تكسره)، وهو الأمر الذي يفتح بابًا جديدًا من أبواب هذا الشعور المعقد والمراوغ معًا. ذلك لأن النفس الإنسانية التي جُبلت على المكابرة لا تحب الاعتراف بالخوف لأن فيه اعترافًا بالضعف والهوان، ولأن الاعتراف بالخوف قد تكون فيه مجلبة للجُبن وغيره من الصفات السلبية حتى النذالة؛ لذلك يتقنع بمشاعر أخرى ترد عن النفس أي نقيصة، وتلك الأقنعة ليست إلا سبلًا متعددة لمواجهته أو التعامل معه، بصورة ترد للنفس ثقتها بذاتها وأمنها الداخلي وسلامتها المبتغاة.

[i]. الخوف والارتعاد Fear and Trembling: A philosophical exploration of faith and ethics by Sören Kierkegaard. Published in 1843 under the pseudonym Johannes de Silentio

المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى