أطفالُ أوديب الجزعون!

تتسلّل إلى غرفته. ليس من عادته أن يُطيل نومه إلى هذا الحدّ، ربما توقّف قلبُه أثناء النوم كما حدث لكثير من النّاس في غفلة من عائلاتهم. تقترب في حذر من سريره لاستطلاع الأمر. يرتفع منسوب الرّعب: إنّه لا يتحرّك ولا يُسمعله نفس!

تقترب أكثر مصيخًا السّمع مترصّدا حركة الغطاء، وقد استعاد خيالُك الصباحيّ المنكوب صوّر مواكب جنائزيّة، نعوش تتبادل أكتاف المشيّعين حملها في الطريق إلى الجبّانة، وشفقةٌ تُلقى على الأطفال الذين غاب آباؤهم وسراويل حمراء تُوزّع عليهم في المدارس. حتى ما إذا ندت عنه حركةٌ بسيطة دبّت فيك الحياة من الجديد.هكذا انبثقت النّبتة الملعونة ومدّت جذورها في الأعماق مُمهدة التربة لهواجس شقيقة.

 

في مرّات لاحقة، ستنهض في ظلام الليل لتفقّد أغصان شجرة الجوز العملاقة في فناء البيت، ربّما أقدم على ما أقدم عليه آخرون، عُثر عليهم مُعلّقين وفق ما يرويه كبارٌ في حضور الصّغار من دون مراعاة طيش خيالهم الذي يُعيد توزيع أدوار الموتى على أحياء يُخشى اختفاؤهم، فيعلّقُ أحبّةً في أشجار أو أسقف منازل مدفوعًا بشكوى عابرة من ضيقِ حالٍ أو غضبٍ طارئ أو خصامٍ.

لِمَ رفض الرّكوب؟ هل ذهب غاضبًا أم أنّ المخاوف القديمة هي التي تُعيده على هذا النّحو؟

نفس المخاوف ستطير بك إلى مدينة مجاورة فيما بعد، كلّما استيقظ الرّعب في أعماقك لتخلفه عن موعد العودة إلى البيت، لتسأل أول من تُصادف من رفاقه في المصنع أو في الإقامة، وتقضي اليوم في انتظاره حين يُقال لك إنّه سيعود مساء، مغتبطًا بهدية السماء إذ أجلت ما يُخيفك.

قبل أن ينبت لك ريشٌ وتصير قادرًا على السّفر، كنت تتنبّأ بموعد عودته، وتُخبر العائلة بالمسافة التي قطعها بين المدينتين، ثم صرت تُسافر إليه لا لشيء سوى لتأجيل ألم تغرسه هواجسُ الفقد في أحشائك.

ستسير، فيما بعد، في الأرصفة ذاتها في أثر خطواتك الصّغيرة، وقد محاها الزّمن كما يفعل بملايين الخطوات وملايين العابرين الذين يدفعهم إلى هاوية العدم كلّما دارت رحاه لتجدّد دورة الحياة، أو لتبحث عن يدك الصغيرة، وقد تشبثت بيده كي لا تضيع في الزّحام وتستعيدُ أصابعه التي تضغط على أصابعك وصوتُه إذ ينصحُك:” لا تنظر إلى النّاس”!

ستعرفُ منذ اهتديت إلى الكراريس الفرويدية أنّ الخوف من فقدان الأب يترجم مشاعر الذنب من رغبةٍ مكبوتةٍ في قتله في مرحلة من مراحل النّمو

ستتطلّع إلى نافذته المطلة على زقاق ضيّق بحوانيته الصغيرة، وتتشمّم الروائح مستمطرًا تلك الذكريات القليلة: يوم عبرتما النّفق الأرضي وقادك إلى تلك المكتبة الضخمة التي ستنشطر، بعد سنوات، حين يتم التراجع عن الاشتراكيّة التي “لا رجعة فيها”، امتدت يدك إلى كتبٍ “لا تُناسبُ الصّغار”، ولمست لأول مرّة “اللّص والكلاب”، لتعرف فيما بعد أكثر من “رؤوف علوان” وتتساءل مع سعيد: “لماذا يغيّر الزمنُ النّاسَ على هذا النّحو البشع”!

-” هيا، لا تنظر إلى النّاس”، يقول لك وأنت تنظر إلى الأعمى الذي ظلّ مفترشًا الأرض في المكان نفسه لنحو خمسين عاما حاملًا اللافتة ذاتها التي كُتبت بخطٍّ أزرق أنيق: “أعينوا أخاكم الكفيف”!

ستتطلّع إلى نافذته المطلة على زقاق ضيّق بحوانيته الصغيرة، وتتشمّم الروائح مستمطرًا تلك الذكريات القليلة

نجحت كلّ محاولاتك لإبعاد الألم، مرات كثيرة، حتى كان ذلك اليوم الذي صارحك فيه الطبيبُ الأخير الذي استنجدت به في مقاومتك الطويلة للخوف، وحدّد لك الموعد الذي لا يقبل التأجيل.

بعد سنوات طويلة من غيّابه، صادفته عائدا مشيًا من مصنع النّسيج، أوقفت السيارة وناديته: اركب يا أبي!

رد بحركة امتنان خدمة لا يرغب فيها: “لا تكترث سأعود ماشيًا”.

لم ينفع رجاؤك. قال إنّه يحبّ المشي قبل أن يتوارى في طريق غائم، حاولت اللّحاق به لكنّه اختفى كما يفعل عادةً في الكوابيس التي ازدهرت بعد غيّابه، تاركًاغصّة مُدرّة لزخّات دموع حارقة، عادة ما تُمطر كلّما هبّت ذكراه وأنت تُتابع فيلما أو تقرأ رواية، تمتحن فيهما الأبوّة جدارتها ببطولة صبورة في مواجهة عصيانٍ لا يأخذ الفقدان في الحسبان.

لِمَ رفض الرّكوب؟ هل ذهب غاضبًا أم أنّ المخاوف القديمة هي التي تُعيده على هذا النّحو؟

لِمَ رفض الرّكوب؟ هل ذهب غاضبًا أم أنّ المخاوف القديمة هي التي تُعيده على هذا النّحو؟

ستعرفُ منذ اهتديت إلى الكراريس الفرويدية التي أضاءت الدهاليز المظلمة في النّفس البشرية، أنّ الخوف من فقدان الأب يترجم مشاعر الذنب من رغبةٍ مكبوتةٍ في قتله في مرحلة من مراحل النّمو، بسبب “صراع” على امتلاك موضوع الرّغبة متمثلا في الأم. لكن المعرفة لا تبدّد المشاعر البدائية التي تعود في كلّ مرّة في شكل أحلام أو كوابيس تدور حول أبٍ على وشك الاختفاء، وأنت تحاول دون جدوى استبقاءه. ستتواصل اللّعبة القديمة بينكما، وقد انتقلت من الواقع إلى الكوابيس، ربما لأنّ التسويّة لم تقع في الحياة، رغم الودّ الذي طبع العلاقة، لأن مسافة غير قابلة للاختراق ظلّت قائمة بينكما، لا أنت تجرأت على قطعها ولا هو تنازل. وكذلك يحدث في العلاقات الملتبسة بين الآباء والأبناء التي تُدار من باطنٍ قد يتجاوز الإثنين إلى خيطٍ يمسكُ طرفه الأسلاف من تاريخٍ سحيق.

بعد سنوات طويلة من غيّابه، صادفته عائدا مشيًا من مصنع النّسيج، أوقفت السيارة وناديته: اركب يا أبي!

تخفي خزائن المعالجين قصصًا ظل أصحابها سجناء طفولتهم تتقاذفهم مشاعر الذّنب والكراهية، كما تحفل الآثار الفنية والأدبية بتعابير هي إعادة بناء لقصص أطفال أوديب المتفرقين في مختلف الثقافات، ولأن الشأن النفسي لا يأخذ حظّه من الاهتمام والنّقاش، في البلاد العربيّة فإن المسألة لا تزال مغفلة.

يبدأ “الخائف” حياته بهواجس أوديبية قد لا ينجح في التخلّص منها أبدًا، وسرعان ما يبني عليها المجتمع البطركي “برنامجه” عبر تنشئة تقومُ على التّخويف، في العائلة والمدرسة والمؤسّستين الدينيّة والسياسية. حيث يجري رسمُ المخيال المعذّب ثم وضع احداثيات الحركة للفرد الذي سيقضي عمره خائفًا من فقدان “شيء ما”، حتى وإن لم يكن لديه ما يفقده، لأنّ الحياة نفسها قد توضع على طاولة المساومة.

من الحكايات المُخيفة إلى وضع لوائح الممنوعات، تبدو الحياة في المجتمعات الأبوية سلسلة لا نهاية لها من المخاوف، ووعيدا لا يتوقّف، من العقاب الذي يطال الجسد إلى الإكراه النفسي وردع الأفكار وانتهاء بالتحذير من جحيم أبديّ يلي الجحيم الصّغير الذي يقطعه الفرد في حياته القليلة، ويتعلّق الأمر بقيود محكمة الوثاق تتبادلها الأجيال طوعًا.

قبل أن ينبت لك ريشٌ وتصير قادرًا على السّفر، كنت تتنبّأ بموعد عودته، وتُخبر العائلة بالمسافة التي قطعها بين المدينتين

يصيبُ الخوفُ المجتمعات أيضًا، فتنكفئ وتكتفي بتدبير حاجاتها البدائية ملتزمة الحذر من عدوان محتمل وقد تلتقي في ذلك المجتمعات التي تعرضت للاستعمار، ولم تشف بعد من عذابات الذاكرة، والقوى الاستعمارية السابقة والامبراطوريات التي لم يعفها تطوّرها من الخوف من الآخر القادم لتغيير عاداتها وإرباك سكينتها.

حيث تحرّك، في الحالة الأولى الحروب القديمة، مخاوف كامنة في اللاوعي الجمعي، تظهر أعراضها في استعدادات لحروب لا تحدث، وفي تعابير وخطابات، تبدو منفصلة عن الواقع، لكنّها تعبّر عن اضطراب، وتُحيل الحالة الثانية إلى خوف من زوال الخصوصيّة والنّقاء الذي هو عنوان كاذب للتفوّق،ولم تفلح العولمة في إطفاء هذه الهواجس، رغم تهديمها الحدود بين الثقافات والمجتمعات، وبالتالي ظلّ الإنسان المعاصر الذي امتلك ناصيّة العلوم كلّها، مرتبكًا  وعاجزًا عن بناء حياة آمنة، وناكصًا يستأنس بحروب الأسلاف  وميثولوجياتهم في صيّاغة مستقبله، بل إنه أنتج أسبابًا جديدة للخوف في صراعه وتطلّعه إلى السيطرة، إلى درجة أن سلوكه بات يهدّد الكوكب و مظاهر الحياة التي تداولت صياغتها الكائنات في ملايين السنين.

وربما احتاجت المجتمعات إلى علاجٍ، تمامًا كما الأفراد، حتى وإن كانت الحالة مستعصية، بدليل أن كلّ ما اقترحته الشرائع والفلسفات لم يوفر الأمان لسكان كوكبنا.

المصدر: مجلة الجسرة الثقافية. العدد: 62

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى