مأزق الكتابة عن الشخصية اليهودية في الرواية العربية / د. رزان إبراهيم (جامعة البترا- الاردن)

إبراهيم خليل الجيدة
Latest posts by إبراهيم خليل الجيدة (see all)

الجسرة الالكترونية الثقافية ـ خاص ـ 

دعونا نتفق أولاً أن معاداة إسرائيل تنبع من كونها دولة ظالمة تعمل ضمن مشروع إحلال استعماري, وليس بوصفها دولة يهودية, ونحن لا نحارب اليهود لأنهم يهود, ولكننا نحارب الصهيونية استناداً لحقيقة كونهم يمثلون استعماراً إحلالياً واحتلالاً غازياً مجحفاً. وفي وقت ندرك فيه بأن أساس الفكر الصهيوني ليس يهودياً, فإن مقتل خيرة شبابنا الفلسطيني على أيدي العصابات اليهودية يفرض تساؤلاً إن كان هناك على هذه الأرض يهودي غير صهيوني. لكن وكما هو معروف تاريخياً, ونقلاً عن المسيري, فإن المؤسسة الحاخامية منذ منتصف القرن الخامس عشر وحتى بدايات القرن العشرين كانت تحرم فكرة العودة, وتعتبرها من قبيل محاولة إرغام الإله والتعجيل بمشيئته, وتسمى خطيئة النهاية. حتى إنهم لما حاولوا عقد المؤتمر الصهيوني عام 1897 في ميونيخ حيث توجد جماعة يهودية كبيرة في المدينة الألمانية عارض يهود ميونيخ فاضطروا إلى عقده في بازل التي لا يوجد بها يهود تقريباً. وهو ما يبدو متعارضاً وفكرة يتبناها كثيرون ترى أن جميع يهود العالم مهما اختلفت آراؤهم وأهواؤهم, توجههم التوراة لتدمير كل ما وقف في طريقهم, وأن القتل وإبادة جميع الأمم –غير أمة اليهود- واجب ديني.

انطلاقاً من تعالق شائع شائك بين اليهودية والصهيونية, يحضرني مأزق الكتابة عن اليهودي في الرواية العربية المرتبط في أذهان الناس بصهونية كنا وما زلنا نعاني منها الأمرين. كيف صورته الرواية العربية؟ وأي مأزق ذاك الذي يقع فيه الروائي العربي وهو يتناول هذه الشخصية الإشكالية؟

فرق أساسي بين خطابات فكرية مباشرة, وأخرى روائية تبقى خاضعة لشروط الأساليب الفنية التي تميز هذا الشكل الأدبي عن غيره من الأساليب اللغوية. ليبقى من الأهمية بمكان إعمال أدوات الناقد باتجاه أساليب فنية خاصة ينماز بها الخطاب الروائي عن غيره, وهي الأشكال والأساليب التي تشي عن مفاهيم وأفكار غير معلنة عن الروائي. ليصبح من حق القارئ أو الناقد تحريك أدواته حافراً ومنقباً ومتجاوزاً ما يمكن أن تثيره انطباعية متسرعة, كثيراً ما تخضع لمزاج صاحبها.

واحدة من أهم الوسائل الممكن طرقها في هذا السبيل النظر في الطريقة التي يعرض فيها الروائي شخوصه؛ وفي ظني أنها واحدة من أهم السبل المعتمدة من أجل التوصل إلى رؤى إيديولوجية يحملها الروائي, ويحرص على إيصالها للقارئ بعيداً عن الخطابية المباشرة الممجوجة. وعليه فإن من طبيعة الرواية الذكية عدم إغفال الطابع المركب للظواهر الاجتماعية والسياسية والإنسانية. الأمر الذي يتطلب نأياً عن شخوص مسطحة ذات بعد واحد, تقدم في صور نمطية متفاصلة لا تتماشى وعنصر النمو والتطور والصراع ونحو ذلك من عناصر القصص الروائي. والروائي الذي يرسم شخوصه وفي ذهنه أنموذج إيديولوجي مجرد مسبق؛ فإنه بكل بساطة يقوم بقولبة الواقع بما يتفق ومرجعية إيديولوجية, تكون حصيلتها النهائية تجريداً على مستوى البناء والأسلوب.

درءاً لهذا المطب الخطير, يصبح من الأهمية بمكان أن لا يغفل الروائي في شخوصه طابعاً مركباً يعكس أو يتماشى مع ما تحمله الظواهر الاجتماعية الإنسانية عموماً من تعقيد أو تركيب. وهو أمر قدمت إليه غير بعيد عن عنواني الرئيسي( مأزق الكتابة عن اليهودي) لأوضح ما مفاده بأن إصرار الروائي العربي على تكرار صورة اليهودي الطيب في كل رواياته قد يكون مدعاة للتساؤل, في وقت قد يرى فيه آخرون أن تكرار صورة اليهودي الشرير أيضاً بمعزل عن صورة تخالفها يدخل في باب الشخصية الأزلية الثابتة التي لا تتغير, بما يُعد اختزالاً مخلاً ضمن رؤية واحدة مسطحة تبالغ في المدح أو الذم لتبقى الصورة منقوصة في الحالتين. وأكرر هنا أني أتحدث عن اليهودي لا الصهيوني, فهناك يهود – على قلتهم- لا يقبلون الدولة الصهيونية الحالية ويعادونها على غرار ناطوري كارتا. وعلى غرار تشومسكي الذي يوصف أنه اشد المعادين لإسرائيل.

في روايته ( النبطي) تجد يوسف زيدان- على سبيل المثال- وقد أورد سيلاً من الأحداث وردود الفعل المتعاطفة مع اليهود, والتي يبديها على نحو خاص بطله ( الهودي) الذي يقدمه في إطار هالة صوفية لطيفة, ويعرض من خلاله موضوع إخراجهم من الجزيرة العربية وقتل سادتهم وسبي نسائهم, مع محاولات للتفرقة بين يهود يثرب والمدينة الذين خانوا النبي, وحاولوا قتله, وبين يهود الشمال الأعرق في اليهودية. والرواية تحشد على نحو ملحوظ فكرة الفتك الظالمه التي لحقت باليهود من كل اتجاه؛ فالروم يحرضون عليهم في الشمال, والكنيسة غاضبة عليهم لأن أجدادهم قتلوا المسيح, والنبي يغتال كبارهم. ليظهروا لنا بعد ذلك حين وصولهم إلى أرض الأنباط فراراً من حرب النبي القرشي, طيبين ومساكين.

هنا يجوز للقارئ أن يسأل: هل يتبنى المؤلف كل ما يرد على لسان الهودي؟ حقيقة إن مجريات الأحداث تجرنا إلى هذا الاعتقاد؛ فالنسوة في بلاد الأنباط لا يحببن سارة لأنها أجمل من بناتهن, ولا يحببن أهلها لأنهم يهود. والحصان الذي أتى به سلامة الذي دخل الإسلام رفس الصبي اليهودي المسكين وقتله, وسلامة يصيح في أهله المتحلقين حول هذا المسكين المعتدى عليه كأنهم هم المعتدون. ويقال لهم بفوقية مطلقة: " إياكم والجرأة على أسيادكم يا كلاب".

قد يقول قائل إن الروائي ينقل صورة اليهودي من خلال وجهة نظر شخصية قصصية ( الهودي). لكن الذي يدفعنا للميل بأنه يتبنى وجهة نظر على قدر كبير من التعاطف مع اليهود هو أن ما يرد في النص يدخل في صميم بؤرة سردية داخلية, كانت على الأغلب ثابتة, بمعنى أنها وصلتنا عبر الهودي وحده, لتنتقل بعد ذلك عبر( مارية) الشخصية الرئيسة في الرواية, ليكون التحول إليها غير ذي بال على مستوى التوجه العام لصورة اليهودي في الرواية. والسبب ببساطة أن مارية بما هي صوت الكاتب تبدي أيضاً التعاطف ذاته الذي يبديه الهودي مع اليهود. وهي من يبادر إلى الدفاع عنهم حين فكر أحدهم بطردهم من السيق. إذ نجدها تصيح:" هم مساكين ويؤنسون المكان". هنا يبدو الأمر مثيراً للتساؤل, حتى وإن كانت الرواية تتحدث عن فترة سبقت الحضور الصهيوني البغيض, إلا أن للقارئ حقه في التساؤل عن إلحاح لا تخطئه العين على طرح صورة اليهودي الطيب المسكين.

في " عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني يحضر مشهد بعينه يحاول التفرقة بين فصيل عسكري يهودي أخذ طفلاً عربياً ووضعه في الشاحنة كأنه حطبة, وبين مهاجرة يهودية ارتجفت حين شهدت هذا الموقف الذي ذكّرها بما فعلت النازية بأخيها. وفي هذا – بطبيعة الحال- مماثلة بين نازية وصهيونية تمارس جريمة إنسانية, وهو ما يتضح في قول بطل غسان كنفاني: " إننا حين نقف مع الإنسان, فذلك شيء لا علاقة له بالدم واللحم وتذاكر الهوية وجوازات السفر". ويبقى السؤال عالقاً بصدد هذه المهاجرة التي أتت فلسطين بوسائل غير مشروعة؛ فإنسانية الموقف تقتضي فعلاً إنسانياً لنحكم عليه بأنه كذلك. وهو ما يدخلنا في مقارنة مع رواية ( شرق النخيل) لبهاء طاهر. وفيها تفرقة واضحة بين يهود رحلوا إلى فلسطين وكانوا أداة للمشروع الصهيوني, وآخرين رفضوا السفر إلى فلسطين. لذلك نستمع إلى بطله قائلاً: " نعم هؤلاء أكرههم, ولكني لا أكره اليهود لأنهم يهود".

في جميع الأحوال, قد تستفزني صورة تتكرر عمداً لليهودي الطيب. ولكن وضع كل شيء في سياقه يوضح موقف الروائي, ويحمينا من سرعة الحكم عليه, أو القول بأنه مطبع أو يبيع ضميره من أجل الحصول على جوائز يمنحها الغرب لكل من يبيع ذمته إرضاء للإسرائيلي. لا بد في هذا السياق من التذكير بأن إنتاجية النص لا تتجلى إلا كاملة, أي من خلال وحدة كل مكونات النص وترابطه, ليس هذا وحسب, بل من خلال معاينة صورة اليهودي عبر أكثر من نص لنفس الروائي, فإن أحسسنا أن الطيبة هي صفة لازمة لليهودي في كل أعماله, فلنا أن نتساءل. وإن رأيناه يمزج بين الصفة وعكسها مفرقاً بين اليهودي والصهيوني, فيبدو لي الأمر معقولاً ويمكن قبوله.

أذكر أخيراً أن القارئ في تعامله عموماً مع النصوص الروائية, يظلمها إن قام باجتزاء جمل بعينها بعيداً عن أخرى تجابهها وترد عليها. وكذلك الحال إن أخذ نصاً بعينه بعيداً عن آخر للروائي نفسه يتيح رؤية تكاملية موضوعية. هنا وعلى سبيل المثال, أستحضر صورة اليهودي في (جملكية آرابيا) لواسيني الأعرج التي أراها تكميلية لما شهدته عنها في ( البيت الأندلسي)؛ فإن كان المجال مفتوحاً للتعاطف معه في البيت الأندلسي, فإنه في جملكية آرابيا بدا شيطاناً رجيماً يمثل الصهيوني في حقده وتعامله الجشع مع بقية البشر.

الموضوع عموماً يقتضي تدقيقاً وتمحيصاً درءاً لوقوع مخل في أحام تقييمية قد تسيء إلى صاحب النص الروائي. ولنذكر في هذا كله دراسات علمية مستفيضة حكمت بأن الوحدة العرقية اليهودية, لا أساس لها من الصحة, وأن لا وجود لفكرة النقاء العرقي لليهود؛ وأن ما يتجلى عن اليهودي من مكونات وطباع, له حمولات حضارية واقتصادية واجتماعية ودينية, بما يستدعي تفكيراً بأهمية ابتعاد كلّ من منتج النص أو قارئه عن فعل التنميط؛ فنحن لا ندين اليهودي بسبب ديانته, وإنما ندينه إن رافقت ديانته صهيونية كنا وما زلنا نراها آثمة ولا شيء غير أنها آثمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى