محفوظ قبل نوبل.. ماذا كان يقول؟

أثناء مراجعتي لمئات الحوارات وآلاف الأسئلة الموجهة لكاتبنا الكبير نجيب محفوظ على مدار رحلته الأدبية الطويلة، التي بدأها عام 1939 بصدور أولى رواياته “عبث الأقدار”، وختمها بأحلام فترة النقاهة 2004، وجدتُ دررا أدبية لم يشر إليها بعض الأدباء المتخصصين في أدب نجيب محفوظ سواء النقاد أو الصحفيين، وقد عمد الكثيرون إلى الإشارة إلى حوارات نجيب محفوظ في الصحافة المصرية، ولكنْ هناك جانب آخر من الصورة، وهي الحوارات والأسئلة التي طُرحت على صاحب “الثلاثية” ونشرت خارج مصر.

نعم كانت هناك قطيعة عربية لإصدارات محفوظ وأفلامه بسبب رأيه تجاه عملية السلام والخطوة التي اتخذها الرئيس السادات بزيارة القدس في 19 نوفمبر 1977، ولكن سرعان ما عادت مؤلفات نجيب محفوظ وأفلامه – أو الأفلام التي أخذت عن رواياته – إلى الواجهة مرة أخرى، وخاصة بعد أن فاز صاحب “الحرافيش” بجائزة نوبل في الآداب عام 1988. وفي ظل مقاطعة الدول العربية لمصر في تلك السنوات، زارت وفود عربية من سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية صاحب “نوبل” ووصلته خطابات تهنئة من كل الدول العربية بما فيها الضفة وعرب إسرائيل.

والأمر ازداد تعاطفا أكبر بعد أن تعرض كاتبنا لمحاولة اغتيال آثمة في 14 أكتوبر عام 1994.

ونعود إلى الوثائق الصحفية والحوارات والأسئلة المنهمرة كشلال ضوء تسبح فيه كلمات نجيبنا، لنكتشف أن هناك عشرة أدباء من نجوم الثقافة في بلد الأرز وجهوا أسئلتهم إلى كاتب مصر الأول، أو “قلم مصر” كما أطلق عليه الإعلامي عماد الدين أديب في أحد حواراته مع صاحب “السمان والخريف”.

هؤلاء الأدباء والمثقفون اللبنانيون والعرب المقيمون في لبنان، نقل أسئلتهم إلى نجيب محفوظ الكاتب الصحفي مرعي عبدالله، ونشرت الأسئلة والإجابات في العدد 813 من مجلة “الحوادث” اللبنانية عام 1972، ففي وقت مبكر وقبل نوبل بستة عشر عاما عرف هؤلاء الأدباء والمثقفون العرب الكبار قيمة محفوظ وأهمية أدبه ورواياته.

يقول مرعي عبدالله في بداية “التحقيق الصحفي”: بمجرد أن أطلعت نجيب محفوظ على فكرة هذا التحقيق وافق فورا على تحديد موعد في مكتبه بجريدة “الأهرام” حيث يقضي الروائي العربي الأول ثلاث ساعات يوميا من الحادية عشرة صباحا إلى الثانية بعد الظهر.

حمل الكاتب الصحفي أوراقه إلى الطابق السادس في مبنى “الأهرام” حيث مكتب نجيب محفوظ مجاورًا تمامًا لمكتب توفيق الحكيم.

أدونيس: كيف توضح موقفك الإبداعي في الكتابة، وكيف تحدد الصلة بين ما نسميه الواقع، وما نسميه ما وراء الواقع؟

وقال له: يسألك الشاعر أدونيس:

حاولتَ أن تكتشف الواقع المصري، بشكل واقعي، في مرحلتك الروائية التي سبقت “ثرثرة فوق النيل”. ثم أخذت تكشف عن هذا الواقع، بشكل سوريالي أو صوفي. وهذا الشكل الأخير متقدم، في رأيي، على الشكل الأول. إن كنت ترى هذا الرأي، فكيف توضح موقفك الإبداعي في الكتابة، وكيف تحدد الصلة بين ما نسميه الواقع، وما نسميه ما وراء الواقع؟

أجاب: توجد تجربة من ناحية، وتعبير من ناحية أخرى. وقد يتخذ التعبير شكلا واقعيا أو لا واقعيا، لا لأنه متقدم أو متأخر – في نظري – ولكن لأنه التعبير المناسب للتجربة. مرة فتنت بمكان وزمان وناس فكان التعبير المناسب إعادة تجسيدهم كأنما لاستنقاذهم من العدم، ولا يمكن تصور وسيلة لذلك خيرا من الوسيلة الواقعية.

ومرة انزعجت من الواقع فلذت بنفسي، ولو إلى حين، ولم يكن ثمة سبيل إلى اكتشاف ذلك الواقع إلا عن طريق الذات المختبئ فيها فكان الأسلوب اللا واقعي.

ومرة ثالثة تغلبت -ربما من الألم- على الانزعاج فحملقت في الواقع بكل تحد فكانت “المرايا” وهي واقعية ومباشرة وتقريرية.

إذن لا يوجد متقدم ومتأخر ولكن المناسب هو المنشود. أما عن الصلة بين الواقع وما وراء الواقع، فليس في حياتي الفنية واقع وما وراء الواقع، ولكن يوجد الواقع والذات، أما ما وراء الواقع فمطلب خطير له وسائله الخطيرة التي أسهلها الموت، أطال الله بقاءك لمحبي جمالياتك.

ويسألك الشاعر جورج جرداق:

لا شك أنك وقفت على آراء أوروبية في رواياتك التي ترجمت إلى لغات أجنيبة، ما هي النقطة التي تلتقي عندها هذه الآراء حول أدبك الروائي بالذات، وحول الأدب العربي المعاصر بصورة عامة؟

أجاب: اطلعت على بعض الآراء التي نقدت رواياتي، وأغلبها لدارسين ممن يعرفون العربية، والقليل منها حول قصص قصيرة ترجمت إلى الإنجليزية في البلاد الأميركية، وسمعت عن رسائل جامعية، ولكني لم اطلع عليها للأسف، وأذكر من تلك القراءات ما يلي:

1 – البعض صورني باعتباري أديبا قوميا تصور رواياته الحياة الروحية والمادية لمجتمعه.

2 – دراسات وصفية لبعض الأعمال تلتزم بالمنهج التفسيري الموضوعي.

3 – دراسات تفسر القصص القصيرة تفسيرا غربيا لا علاقة له بما تفسر به عادة في بلادي (أعني التفسير السياسي) وقد اعتبروني من كتاب الهيبز (تصور) ورجحوا تأثري بالفيلسوف ماركوز. وقد دهشت لذلك.

وسألك الشاعر بلند الحيدري:

اتهم إبراهيم المازني عام 1936 المصريين بأنهم (.. أطلب إلى الرخاء الثمين والراحة، منهم للقوة والبأس والتجريد، ولا صبر لهم على المغامرة). وقد مضت على قولته هذه ست وثلاثون سنة عرفت مصر فيها تغيرات جذرية هامة، وأنها تواجه اليوم معركة مصيرية، لا يمكن أن تخوضها انطلاقا من تلك الشخصية التي رسمها المازني للمصري، فما هي مقومات الشخصية المصرية الجديدة التي جاءت بها الثورة، وسنوات التحول نحو الاشتراكية والتي تؤهلها لخوض معركة المصير من ناحية ثانية. وما هو الدور الذي لعبه المثقف المصري في إعداد هذه الشخصية الجديدة؟

أجاب: لقد عايش المازني ثورة 1919 التي كشفت عن معدن مصري صلب نقي ثائر مكافح وشهيد. وأستطيع أن أؤكد لك أني عرفت عن قرب بعضا من شباب 1972 فوجدتهم لا يقلون عن ثوار 1919 شيئا.

ولعلهم يتميزون عنهم بالفكر المعاصر الناضج. وفضلا عن ذلك فقول المازني لا يمكن أن ينطبق على شعب ما تزال أكثريته من الكادحين الصابرين الذين يعملون تحت شعار “من كل على قدر طاقته …”. ولكنه ينطبق على طبقة ورثت ثورة 1919 بالانقلابات غير المشروعة، كما ورثت ثورة 1952 بالصدفة العمياء، فاستغلتها استغلالا انتهي بها إلى يونيو 1967.

ويسألك الدكتور خليل تقي الدين:

لماذا لا يعرف الأدباء المصريون شيئا عن أدباء سائر البلاد العربية؟ نحن نعرفكم وأنتم لا تعرفوننا، لماذا؟

أجاب: لا تقصير من ناحيتنا يا سيدي، فأننا نزور المكتبات ولا نجد مؤلفات كتابنا العرب، وما من كتاب نجده حتى نقتنيه، فهل يرجع ذلك إلى قيود النقد المالية؟ إنه وضع محزن جدا، وبخاصة وأن ما عرفناه من إنتاجكم جدير بكل تقدير في جميع الأشكال الأدبية، إن الشعر الحديث أغلب رياحه شرقية، وإنجازاتكم في الرواية والقصة القصيرة رائعة، وأحدث إنجازاتكم في المسرح تكاد تتقدم الصفوف على حداثتها، ونحن في زمن يطمح فيه الكثيرون إلى قومية عربية واحدة، فكيف لا يفلحون في إيجاد سوق مشتركة أدبية؟!

ويسألك الكاتب جورج شحادة:

لماذا لا يُقام ما يشبه اتحاد أو برلمان صغير للفكر والعلم واللغة من أجل التعاون فيما بين الأدباء بدلا من العمل الفردي؟

أجاب: من حسن الحظ أنه وجد أخيرا اتحاد الكتاب العرب، وهو يصلح أساسا لاقتراحكم، ولكننا نسافر ونتكلم ولا نفعل شيئا. وعندنا الجامعة العربية، وبها قسم للثقافة، فهل يستطيع أن يضع سياسة راسخة لحل المشكلات الآتية:

1 – النشر والتوزيع.

2 – الترجمة المنظمة من وإلى العربية.

3 – تجديد وتسهيل اللغة العربية.

4 – بعث التراث على ضوء العصر.

5 – تنمية حرية الفكر وكرامة الأديب.

وتسألك الكاتبة غادة السمان:

 

استوقفني حوار صحافي لك، وأعجبني فيه تحطيمك لصفة “الصعلكة” التي ما يزال يظن أغلب كتابنا العرب أنها صفة ملازمة للعبقرية، فقد حدثتهم عن وصولك إلى تنظيم أوقاتك ومواعيد كتابتك ونومك وعملك. هل هذا التنظيم هو وليد الإرادة الجبارة وحدها، أم أن كل ما فعلته الإرادة لديك هو أنها خططت لاستعداد فطري داخلي للتنظيم في أعماقك هو مثل غريزة النحل مثلا؟

غادة السمان: أحييك على تحطيمك لصفة الصعلكة التي يظن أغلب كتابنا العرب أنها صفة ملازمة للعبقرية

أجاب: أعتقد أن مرجع النظام في حياتي يعود إلى تعدد الهوايات مع الرغبة في التفوق. فقد كنت منذ نشأتي الأولى تلميذا مجدا ولاعب كرة، وقارئا نهما ومغرما بالسينما والطرب، لذلك اتجهت إلى تنظيم وقتي لأسيطر عليه سيطرة كاملة تيسر لي المذاكرة واللعب والقراءة واللهو والطرب، ثم صار ذلك عادة ملازمة لم أندم عليها أبدا.

ويسألك العلامة الشيخ عبدالله العلايلي:

من خلال تصريحاتكم العديدة السابقة يفهم أن تحويل نتاجكم الأدبي إلى أعمال سينمائية يفقده الكثير من مميزاته الأدبية، فلماذا لا تكتبون مباشرة للسينما، أو لماذا لا زلتم تسمحون بتحويل نتاجكم إلى أعمال سينمائية؟

أجاب: السينما لغة جديدة لمخاطبة الجماهير العريضة التي أغلبيتها محرومة بحكم ظروف تاريخية جائرة من الثقافة، لذلك فإن بلاغتها متواضعة مطابقة لمقتضى الحال. والسؤال الذي يتردد عند تحويل عمل أدبي إلى فيلم سينمائي هو “ما ينبغي أن نصنع بهذا النص حتى يصير مناسبا لمخاطبة الجماهير بأقل قدر من التضحية؟ وكيف نوفق في تنفيذ ذلك مع مراعاة ظروف الإنتاج والتوزيع؟

والنتيجة هي ما ترى، وهي ليست سيئة جدا دائما، ومهما يكن من أمر مستواها فقد يسرت أعمالا لملايين الأميين ما كان يتاح لهم أن يقتربوا منها بحال من الأحوال.

الشيخ عبدالله العلايلي: تحويل نتاجك الأدبي إلى أعمال سينمائية يفقده الكثير من مميزاته الأدبية فلماذا لا تكتب مباشرة للسينما؟

وثمة آمال جديدة في مواهب جديدة رفيعة، وآمال أخرى في مساندة الدول للفيلم باعتباره خدمة ثقافية (لا تجارة). وقد شاركت أحيانا في الكتابة السينمائية وعانيت من ذلك ما عانيت مما لم أجده مشجعا على الاستمرار إلا فيما ندر.

ويسألك الشاعر عمر أبو ريشة:

تتناولون في قصصكم شخصيات من صميم المجتمع وتعرضونها كما هي في شتى تجلياتها على القراء أو المشاهدين، هل تفكرون في خلق شخصيات خيالية من خارج المجتمع، ذات تجليات جمالية غريبة، كما فعل أوسكار وايلد، وكافكا، في بعض ما كتبا، على اعتبار أن الحياة تحاول أن تتطبع فيما نقلد من معطيات الفن؟

أجاب: كل شخصية واقعية وخيالية معا، واقعية لأنها مستمدة من الحياة، وخيالية لأننا نعيد صياغتها بما يخدم هدفا فنيا. بيد أننا نخلقها أحيانا لتعيش في دنيا مثل دنيانا فتبدو متطابقة مع واقع الحياة بما يوهم بأنها حقيقية وليست خيالية. ونخلقها أحيانا لتعيش في دنيا غريبة عن دنيانا فتبدو خيالية غير متطابقة مع الواقع مع أنها – ربما – أعمق واقعية. خذ مثلا “جوزيف ك” بطل كافكا. إنه شخص متهم يبحث عن تهمته، ويمضي وسط عالم معقد يطحنه طحنا حتى الموت. لا يوجد في دنيانا شخص على هذه الصورة، ولا عالم كهذا العالم، ولكن الشخص الذي يبحث عن العدالة في عالم معقد ميكانيكي وينتهي بالفناء، هذا شخص يمثل جوهر الواقع في المجتمع الحديث. إنه شخص مجرد، ولكن تتجسد فيه الحقيقة كأقوى ما يكون. وقد حاولت هذا النوع من الخلق في “الطريق” وفي كثير من القصص القصيرة.

ويسألك الشاعر سعيد عقل:

 

أنت تعلم أن الحكومات العربية قصرت أمام هذه المحنة التاريخية التي اسمها انفجار إسرائيل في المنطقة. ماذا عملت شخصيا لاستبدال هذه الحكومات؟

أجاب: في نطاق وسيلتي التعبيرية، ومن خلال قيود النشر، لم أسكت قط عن نقد ما أعتقد أنه يستحق النقد.

الشاعر سعيد عقل: ماذا عملت شخصيًا أمام المحنة التاريخية التي اسمها انفجار إسرائيل؟

ويسألك الدكتور سهيل إدريس:

رواياتكم وقصصكم الأخيرة تحمل نبوءة الهزيمة التي مُنى بها العرب عام 1967. وبصفتكم روائيا اجتماعيا، هل تجدون في تطور المجتمع المصري الحديث ما يوحي برواية تحمل روح التفاؤل؟

 

أجاب: أعتقد أن أحلك الروايات لم تخلُ من بصيص نور، وأن الأمل معقود بتجديد المجتمع العربي لنفسه وتصحيحه لأخطائه، كما هو معقود بأجياله الجديدة الثائرة، وليس المهم أن توجد رواية متفائلة، وإنما المهم والأمل أن يوجد مجتمع جدير بالتفاؤل.

الدكتور سهيل إدريس: هل تجدون في تطور المجتمع المصري الحديث ما يوحي برواية تحمل روح التفاؤل؟

 

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى