الشيء نحو ضده

عبد السلام بنعبد العالي
Latest posts by عبد السلام بنعبد العالي (see all)

«أن يَعبُر المرء جسرًا، ويخترق نهرًا، ويتخطّى حدودًا، معناه أن يغادر الفضاء الحميميّ المألوف، حيث يكون المرء في مكانه، كي يلج أفقًا مخالفًا، وفضاء غريبًا، مجهولًا، حيث يكون معرّضًا لمواجهة الغير، ولأن ينكشف من غير مكان يخصّه هو، أن ينكشف من غير هويّة. إنّها قطبية الفضاء البشريّ المكوّن من داخل وخارج، هذا الدّاخل المطمئِن المسَيَّج القارّ، وذاك الخارج المقلق المنفتح الحركيّ، عبَّر عنهما الإغريق القدماء على شكل زوج من الآلهة المتحدّين/ المتعارضين: هما هيستيا وهيرميس. …. لكي يكون المرء هو ذاتَه، ينبغي أن يرتمي نحو ما هو غريب، وأن يجعل نفسه تمتدُّ في الغريب وعن طريقه، إذا بقينا منغلقين على ذواتنا، فإنّنا نضيع ونكفّ عن الوجود، إنّنا نعرف ذواتنا ونتشكل عن طريق الاتّصال والتّبادل وملاقاة الآخر، ما الإنسان إلا جسرٌ بين ضفّتي الذّات والآخر».

Jean-Pierre Vernant, Œuvres II, Seuil ? Paris, p2339

«على جسر كيهل، نرقص في الوقت ذاته في ألمانيا وفي فرنسا، نرقص لا في فرنسا ولا في ألمانيا، ليس في واحدة ولا في الأخرى، فيهما معًا».

م. سير، فن الجسور

«ليس الموَلِّد المائي للكهرباء مبنيًا في نهر الراين على شاكلة الجسر الخشبي القديم الذي يربط منذ قرون ضفة بأخرى، بل إن النهر هو بالأحرى مبني في المولّد الكهربائي، وما هو عليه الآن كنهر، أي كمزوِّد بالضغط المائي، يستمده من ماهية الموَلِّد الكهربائي».

م.هايدغر، السؤال عن التقنية

يذهب الفيلسوف الألماني مارتين هايدغر إلى أنّ الجسر، بما يسمح به من قدرة على العبور، فإنه لا يكتفي بالربط بين ضفتين، وإنّما «يأتي بالضفتين، بما هما كذلك، إلى الظّهور». يكشف الجسر، قبل كل شيء، أنّ الضفتين اللتين يربط بينهما لا يتقدّمان وجوده، صحيح أنهما كانتا موجودتين حين لم يكن هناك جسر، لكن الجسر، رمز الوصل واللقاء هو الذي يجعلنا نتبيّن انفصالهما عن بعضهما. «الجسر يوصل الضفتين بعضهما ببعض، ومن ثمة فهو يميّز بينهما، بفضل الجسر تنفصل الضفة الثانية لتنتصب في مواجهة مع الأولى».
الجسر إذًا أداة وصل وفصل في الآن ذاته، لا ينبغي أن نفهم الفصل هنا على أنه إبعاد، إنه ضمّ وتوحيد، إلا أنّه ليس توحيد المتطابق L’identique وإنّما توحيد المتخالفين Le même. نلمس معنى هذا الفصل الواصل إنْ نحن توقفنا عند الاشتقاق اللغوي لكلمة اختلاف Différence ذاتها في اللغة الفرنسية، يقول أحد كبار شرّاح هايدغر، الفيلسوف ج. بوفري: «لنتأمل كلمة اختلاف، différence هذا نقل فرنسي يكاد يكون حرفيًّا للكلمة الإغريقية ديافورا. فورا آتية من الفعل فيري الذي يعني في اللغة اليونانية، ثم في اللاتينية Feri، حمَل ونَقل (…) الاختلاف ينقل إذًا، فماذا ينقل؟ إنّه ينقل ما يسبق في الكلمة ديافورا فورا، أي السابقة ديا التي تعني ابتعادًا وفجوة… الاختلاف ينقل طبيعتين لا تتميزان في البداية، مبعدًا إحداهما عن الأخرى، إلاّ أنّ هذا الابتعاد ليس انفصامًا، إنّه على العكس من ذلك، يقرّب بين الطرفين اللذين يبعد بينهما؛ لذا كان هيراقليطس يقول عمّن لا يكنّ له المحبة: إنّه لا يعلم أنّه لا يتّفق مع نفسه إلاّ نتيجة الاختلاف».

ميشيل فوكو

هذا الضمّ المفرّق، وهذا التّوحيد المتعدّد، وهذا القرب المُبعِد، والوصل الفاصل، هو ما يكشف عنه فيلسوف «الكينونة والزمان» في مفهوم اللوغوس Logos، يقول: «هذا التوحيد الذي ينطوي عليه فعل ليغيين لا يعني أننا نقتصر على جمع الأضداد وضمها والمصالحة بينها، الكل الموحِّد يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته، مثل الليل والنهار، الشتاء والصيف، السلم والحرب، اليقظة والنوم، ديونيزوس وهاديس، إن هذا الذي ينقل (الشّيء نحو ضده)، عبر المسافة البعيدة التي تفصل الحاضر عن الماضي، إنّ هذا الديافيرومنون هو ما يعرضه اللوغوس في حركة انتقاله، وفعل اللوغوس ينحصر في عملية النّقل هذه، إنّه ما ينقل، اللوغوس، الوجودُ الموحِّد، ناقل وحامل».
اللوغوس إذًا هو ما ينقل، إنه جسر، وهو «ما يعرض أمامنا أشياء يتنوع وجودها ويتباين وقد اجتمعت في الحضور ذاته». وهو، ككل جسر، ينقل طرفين لا يتمايزان في البداية مبعدًا أحدهما عن الآخر، إلاّ أنه ابتعاد يوصل الطرفين المتخالفين بالفعل ذاته الذي يفصل بينهما. ما أبعدنا إذًا عن التوحيد الميتافيزيقي الذي يصنع هويات واهمة وتطابقات تقضي على كل تفرّد، يربط الجسر فيما بين ضفتين مبرزًا انفصال إحداهما عن الأخرى، ويقيم الاختلاف هويات تعدّدية تضمّها وحدة غير ميتافيزيقية، تترك لكل عنصر نصيبه من التميّز، وتتيح بالنسبة للمجموع حرية الحركة.

هولدرلين

لا عجب -إذن- أن يعمد واحد من أهمّ «مفكري الاختلاف»، وأعني ميشيل فوكو، إلى التوقّف عند علامة المساواة التي يحدِّد عن طريقها منطقُ التطابق مفهوم الهوية، كي يرى فيها قنطرة وحركة تفصل الهوية عن ذاتها لكي تضمّها إليها، ما يهمّ فوكو في تحديد الهوية هو الجسر الرابط بين أ وذاتها. يقول: «تنطوي المساواة أ=أ على حركة داخلية لا متناهية تبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته، وتقرّب بينهما بفعل ذلك التّباعد نفسه. يتعلّق الأمر ببُعد إيجابي بين المتخالفين: إنّه البُعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان». علامة المساواة هنا لا تدلّ على تطابق متخشّب، وإنّما تشير إلى تصدّع الهوية وتؤكد الاختلاف، فتجعل الذّات في بعد دائم عن نفسها، بحيث لا يكون الآخر إلا هذا الابتعاد. لن يعود السّلب، والحالة هذه، تعارضًا بين هويتين، وإنّما هو يقطن الهوية نفسها، الاختلاف يسكن الهوية، والآخر يقطن الذات، إنّه انفصال الذات اللامتناهي عن نفسها والتقاؤها اللا متناهي معها.
ليس مدّ الجسور إذًا قضاء على الاختلاف، الجسر لا يصهر الطرفين في وحدة مطلقة، بل يربط أحدهما بالآخر فيحوّل «القرب والبعد بين الأشياء والإنسان إلى مجرد مسافات Distances»؛ أي أنه ينقل المكان إلى امتداد هندسي تحدّده أبعاد ومسافات، وهي مسافات يمكن قهرها بمجرد قطعها، وعلى رغم ذلك فإن الجسر لا يُبنى في محل قائم قبله، إن المحلّ يتولّد انطلاقا من الجسر، ويسمّى باسمه، بناء جسر يفتح طرقًا ويعيّن جهات، ليس المكان الهندسي هو الذي يفسح المحل ويسمح به، بل الجسرُ هو الذي ينظّم المكان ويجعله قابلًا للصياغة الهندسية، الجسر فضاء يحوّل الانفصال إلى مجرد بُعد مكاني فيجعل الإنسان يشعر أنه «يقيم بالقرب من الأشياء»، وأنه يقطنها وأنها «موطنه»، فتتحول علائق البعد والغربة، بما تحملانه من حمولة نفسية، بله وجودية، إلى مجرّد امتداد مكاني ومسافات هندسية.

هايدغر

يبيّن هايدغر العلاقة القوية التي تربط فيما بين بناء الجسر والسّكن، وذلك عبر تحديده لمعنى الفعل الألماني bauen الذي يعني في الوقت ذاته: سكن، وأقام وبنى وشيّد وعالج وربّى، وأحاط الشيء بالعناية. على هذا النّحو فالبناء يعنى إقامةً وسكنًا، أن يسكن الإنسان كما تقول محاضرة «البناء، السكن والتفكير»، يعني أن يكون في أمان وسكينة، يجمع الجسرُ فيما بين النهر وضفتيه والمشهد الطبيعي المحيط به، وبذلك يُمَكّن النهرَ من أن يظهر في ماهيته كنهر، على عكس المولِّد المائي للكهرباء الذي لا يصون ماهية النهر، بل يحوله إلى مجرّد موْرد للطاقة المائية.
تحت الجسر، لا تنتصب مُولِّدات طاقة، وإنّما يجري نهر راين هولدرلين وشومان، ونهر سِين أبولينير:

تحت جسر ميرابو يجري نهر السين
وتجري حكايات غرامنا

* * *

يدًا في يد لِنَمكُث وجهًا لوجه
بينما تحت جسر أذرعنا تمرُّ
موجةُ نظرات سرمدية منهكة

مجلة «الجسرة الثقافية» – العدد (61)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى